الجسد هو أولى ما توجهت العناية بالمحافظة عليه من كل ما يخاف ويحذر منه، ومن ثم تفتقت فكرة الدرع الواقي الذي يلبسه المحارب ليكف عنه طعنات المحارب الآخر وحديثاً ظهرت السترة الواقية من الرصاص لتكف بأس الطلقات الآتية من مصادر غير مرئية أو متوقعة، فالمقصود حماية الجسد والدرع وسيلته، ومتى ما كان الدرع موجوداً في حالة حسنة تمكنه من القيام بمهمته فإن الجسد يتفرغ للقيام بما هو مطلوب منه، ويوم أن تتوجه الهمة إلى العناية بالدرع من ناحية الشكل أو الزينة مع إهمال العناية بالجسد والمحافظة عليه وإبعاده عن كل ما يؤثر فيه بالسلب فقد انعكست الأمور وضاعت الأولويات وهو مؤذن مع مرور الأيام بضياع المحافظة على الجسد على النحو المأمول، فلكي تمضي الأمور على النحو السليم فينبغي أن يظل الدرع في مكانه ودوره لا يتجاوزه، ويظل الجسد في مكانه ورتبته فلا ينزل عنها، والمثل المناظر لذلك في الواقع المغالبة أو المشاركة السياسية في أيامنا هذه فالدرع هو الحصول على الأغلبية التمثيلية في المجالس النيابية، والجسد هو الدعوة إلى الله تعالى وإلى دينه وشريعته، فإن دخول غمار السياسة ومحاولة انتزاع موطئ قدم فيها هو بمثابة الدرع وذلك بغرض الحفاظ على الدعوة من أن تحاصر أو يضيق عليها لو ترك الأمر وصارت الأغلبية لغير الإسلاميين، وهو ما يعني أن لا نستهلك الوقت كله والجهد كله والإمكانات كلها في الحصول على الدرع أو تقويته، ثم نهمل بعد ذلك الدعوة إلى الله ركونا إلى تلك الأغلبية، فالدعوة هي الأصل وهي التي أوصلت من وصلوا إلى المجالس النيابية، وعلى ذلك فلا بد أن تتوجه الهمة بقوة ونشاط إلى الدعوة حيث -الحمد لله- قد كسرت الأبواب الموصدة وبات الأمر سهلاً ميسوراً حيث الانتقال في شرق البلاد وغربها وشمالها وجنوبها من غير عوائق أو عواقب تخشى، وكذلك إقبال الناس وتعطشهم إلى من يدلهم على دينهم، ولا بد للدعاة أن يسابقوا الزمان حيث لا ينبغي أن يسبقنا أحد إلى التعامل الذكي مع الشعب، وحيث يجب علينا أن نبلغ بالدعوة مداها وحتى نحشد الأنصار حولها حتى يستيقن الناس أنه لا فلاح لهم في الدنيا ولا نجاة لهم في الآخرة إلا بقبولهم لمضامين الدعوة والعمل بها، والتريث في هذا غير محمود فإن هذا ليس مكانه، والمبادرة والركض والتشمير في ذلك هو الذي ينبغي أن يسود عمل الدعاة في تبليغ دين الله تعالى كاملا غير منقوص، كما قال نبي الله موسى عليه السلام: “وعجلت إليك رب لترضى”، وكما قال عمير بن الحمام في بدر وهو يقاتل: “ركضا إلى الله بغير زاد … إلّا التّقى وعمل المعاد”، إنه عندما ندرك حجم الإفساد العقدي والتعبدي والخلقي الذي نزل بالشعوب جراء الإفساد الممنهج الذي مارسته تلك الأنظمة الطاغية على شعوبها لعدة عقود يتبين لنا عظم المهمة المناطة بالدعاة إلى الله تعالى، ومدى ما تحتاجه من جهد وصبر ومثابرة وإمكانات مادية لطباعة بعض الكتيبات والتنقل من مكان إلى مكان وهذا قد يدعو بدوره إلى إنشاء جهاز للدعوة أو هيئة أو مؤسسة تعتني بهذه الجوانب وتتوفر عليها وتوليها العناية اللازمة لقيام كتائب أو قوافل الدعوة بواجباتها.
إن مضمون الدعوة لا ينبغي أن يقتصر على الخطاب الوعظي الذي يعتني بفضائل الأعمال دون التطرق إلى البناء الصحيح للدين في نفوس المدعوين، لأن ذلك قد يؤول في النهاية إلى تغييب جزء مهم وكبير من حقيقة الدين، وإذا كان هذا المسلك قد سلكه البعض أيام وجود الأنظمة الطاغوتية نظراً لقبضتها الأمنية الطاغية على الدعاة فإن ذلك لا يجوز أن يستمر الآن بعد ما من الله به تعالى من حرية الدعوة إلى الله تعالى.
ومما ينبغي أن يحذر في العمل الدعوي أن نحوله إلى مجال لعرض الخلافات بين فصائل العمل الإسلامي فإن ذلك مؤذن بانصراف الناس عن الدعوة إلى ما سواها من الدعوات المناهضة التي تستغل هذا المسلك لنفث سمومها وإيقاع العداوة والبغضاء بين الإسلاميين.
فهل نجد الآذان الصاغية التي تبادر إلى البناء وتتجه إلى الأمام ولا تنظر أو تستجيب لمن يدعوها للتقهقر والالتفات إلى الخلف تحت ذرائع لم يعد ينطلي أمرها إلا على الغافلين.
المصدر: مجلة البيان.
http://www.albayan.co.uk/article.aspx?id=1851