أسس البناء العلمي

قد رفع الله تعالى شأن هذا الإنسان، وخلقه في أحسن تقويم، ورباه بالآيات العظيمات،..وبعث إليه المرسلين لهدايته بتربيته، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بما للتربية من الأهمية البالغة في تحصيل سعادة الدنيا والآخرة، وما يترتب عليها من تحديد شخصية الفرد ومنهجه الفكري وعقيدته وسلوكه؛ ولذلك اهتم بها وأسسها على دعائم النقاء العقدي والفكري والعطاء والتضحية، وجعلها الوسيلة الأهم لمعرفة الطبيعة الإنسانية وتمكينها من مجالات النجاح التربوي وتزويدها بأوثق عوامل التفوق العلمي. وعلى ذلك أقام صلى الله عليه وسلم حياة أصحابه رضي الله عنهم؛ حيث زودهم بالتربية الإيمانية الشاملة حتى أخرج أعظم جيل عرفته البشرية، ذلك الجيل الذي بدأ صلى الله عليه وسلم يؤسس لإعداده بالتربية الرشيدة الهادية؛ فتحقق له صلى الله عليه وسلم مقصده في زمن قياسي؛ لتميز أسلوبه صلى الله عليه وسلم التربوي الدعوي.

وفي مستهل هذا البحث نحتاج إلى إشارات من النصوص ونتف من كلام المفسرين واللغويين لنفهم مضمون العنوان ((أسس البناء العلمي)). يقول أبو الحسن الواحدي في تعليقه على قول الله تعالى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ}[التوبة:109]؛ البنيان: مصدر يراد به المبنى ههنا، والتأسيس إحكام أسس البناء وهو أصله، وقرأ نافع: أُسس بضم الألف بنيانُه رفعا، وهذا في المعنى الأول لأنه إذا أسس بنيانه، فتولى ذلك غيره بأمره كان كبنائه، والمعنى: المؤسس بنيانه متقيا يخاف الله ويرجو ثوابه ورضوانه خَيْرٌ؟ أم المؤسس بنيانه غير متق؟ وهو قوله: {أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ}[التوبة:109]، وشفا الشيء حرفه، والجرف ما يجرفه السيل من الأودية، وهو جانبها الذي ينحفر بالماء أصله فيبقى واهيا)[1]. وقال زين الدين الرازي: (أس س: (الْأُسُّ) بِالضَّمِّ أَصْلُ الْبِنَاءِ، وَكَذَا (الْأَسَاسُ) وَ (الْأَسَسُ) بِفَتْحَتَيْنِ مَقْصُورٌ مِنْهُ وَجَمْعُ الْأُسِّ (إِسَاسٌ) بِالْكَسْرِ وَجَمْعُ الْأَسَاسِ (أُسُسٌ) بِضَمَّتَيْنِ وَجَمْعُ الْأَسَسِ (آسَاسٌ) بِالْمَدِّ وَقَدْ (أَسَّسَ) الْبِنَاءَ (تَأْسِيسًا))[2]. وجاء في المعجم الوسيط: ((أسس) البناء أسه؛ (الأساس) قاعدة البناء التي يقام عليها وأصل كل شيء ومبدؤه ومنه أساس الفكرة وأساس البحث والتعليم الأساسي الخبرة العلمية والعملية التي لا غنى عنها للناشئ والنظام الأساسي هو النظام الذي يمثله دستور الدولة (مج)، (الأس الإس الأس) الأساس ومن الدهر قدمه. (الأس) الأساس يقال قلعه من أسه والأثر من كل شيء وباقي الرماد وقلب الإنسان (ج) إساس وآساس وفي الحساب العدد الدال على قوة الكمية فالقوة الثانية أسها (2) والقوة الثالثة أسها (3) وهكذا..(التأسيس) في القافية ألف تلزم القافية وبينها وبين حرف الروي حرف مثل:

(ألا طال هذا الليل واخضل جانبه … ) فالألف في (جانبه) هي التأسيس)[3]. أما العلمي فنسبة إلى العلم الذي هو ضد الجهل، ويأتي في اللغة على معنيين اثنيين؛ أحدهما غلبة الظن، قال تعالى: {فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار}[الممتحنة:10]؛ أي غلب على ظنكم إيمانهن. وثانيهما الاعتقاد الجازم الذي لا تردد فيه ولا شك، قال تعالى: {فاعلم أنه لا إله إلا الله}[القتال:19]. أما العلم اصطلاحاً فهو صفة ينكشف بها المطلوب، أو هو إدراك الشيء على ما هو عليه. وقد عرف شمس الدين السفاريني الحنبلي رحمه الله تعالى موضوعه قائلا: (هو ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية)[4]، أي الأحوال التي منشؤها ذات الشيء محل البحث. ومن خلال هذه الإطلالة يتبين أن المقصود من العنوان يتجلى في إيجاد السبيل الأمثل لبناء جيل من العلماء تعاد فيهم صياغة العقل المؤمن والوجدان المسلم تأسيسا على العقيدة الصافية، والفهم السليم للإسلام وفق ما جاء في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على منهج سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين. ذلك أن الشريعة الإلهية تقوم على تأديب النفس وتصفيّة الروح، وتثقيف العقل وتقوية الجسم، فهي تعنى بالتربية الدينية والخلقية والجسمية في آن واحد؛ إذ تمنح المربى مسايرة اتساع الأفق الفكري، وتؤهله لاستيعاب وفرة المحصول العلمي، وتمكنه من فهم اختلاف المذاهب والآراء. وتجعله قادرا على التعامل مع تنوع الدراسات، واتساع المناهج، وتعدد المذاهب الفلسفية والدينية. فيصبح محققا للمرامي التي تهدف إلى تجسيدها في المربى وتتوخاها من تربيته. فهذه الشريعة المطهرة تسعى إلى تأسيس أجيال سليمة المعتقد، صحيحة العبادة، قوية الإرادة، صالحة لأنفسها مصلحة لغيرها، مقدرة لمكانة العلم رافعة لمنزلة العلماء.

ولتحقيق هذا المنحى ركزت على التربية بالقدوة باعتبارها أنجع الوسائل لتحقيق المرامي التربوية، وأقربها إلى بلوغ النجاح، يقول الأستاذ محمد قطب: (من السهل تأليف كتاب في التربية، ومن السهل تخيل منهج وإن كان في حاجة إلى إحاطة وبراعة وشمول، ولكن هذا المنهج يظل حبراً على ورق ما لم يتحول إلى حقيقة واقعة تتحرك في واقع الأرض)[5]، فالمربي قدوة يأتسي به المربى، ونموذج يحتذي به، ونمط يتقمص شخصيته، ومثال يقلد سلوكه. فلا تنتظم التربية إلا حين تؤسس على مدرجة علمية رصينة تتدرج بالمربى وتقوده بزمام القدوة الحسنة التي جعلها الإسلام سابلة تربوية مكينة؛ قال تعالى:{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}[الأنعام:90]، إنه موكب الإيمان الذي هدى الله وجعلهم قدوة لغيرهم. فلا اقتداء إلا برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلا بد للمربي أن يترسم خطاه. خاصة وأن المربى ميال إلى تقليد  ومحاكاة المربي. ونظراً لأهمية وتأثير القدوة فقد لجأ كثير من العقلاء إلى وضع أولادهم تحت رعاية من هو أهل لأن يقتدى به طلبا للأدب وأملا في تحصيل السمت الحسن والمعرفة المؤثرة في السلوك. فقد روي أن عمرو بن عتبة بن أبي سفيان لماّ دفع ولده إلى المؤدب قال له: (ليكن أول ما تبدأ به من إصلاح بنيّ إصلاح نفسك، فإن أعينهم معقودة بعينيك، فالحسن عندهم ما استحسنت، والقبيح عندهم ما استقبحتَ، وعلّمهم سير الحكماء ، وأخلاق الأدباء..)[6]، بهذا المنهج يظهر دور التربية الفعّال في الحياة البشرية، عندما تقاد بزمام العلم، وتحاط بإطار المعرفة، يقول الله تعالى منوها بمكانة العلماء: {هل يستوي الذّين يعلمون والذّين لا يعلمون}[الزمر:9]، فمنع الله تعالى المساواة بين العالم والجاهل، لما قد اختصّ به العالم من فضيلة العلم، يقول الماوردي معليا شأن العلم: (ولهذا فهو أشرف ما رغب فيه الرّاغب، وأفضل ما طلب وجَدَّ فيه الطالب، وأنفع ما كسبه واقتناه الكاسب، لأن شرفه يثمر على صاحبه، وفضله ينمي على طالبه)[7]. فلا بد للمربي أن يقوم بواجبه التربوي تجاه تربية أبنائه المتعلمين؛ فهم فلذات الأكباد، ورجال الغد، فلا مناص من سهره على تربيتهم دون كلل وبذله الوسع سعيا إلى تأهيلهم من غير ملل، حتى يجسد قول رسول الله صلى الله عليه وسلّم: “والله في عون العبد مادام العبد في عون أخيه”[8]. كما يلزم لتحقيق التربية أهدافها أن تجد جوا من الاستعداد النفسي لدى المتلقي حتى يتأثر بما يلقى إليه من معارف وعلوم، تحتنكه بالموعظة المؤثرة وتفتح طريقها إلى نفسه مباشرة عن طريق الوجدان فتهزه هزاً، عبر استخدام الرّأفة والترغيب والترهيب، أو بواسطة تتبع أسلوب الثواب والعقاب.

فشريعتنا هذه قد امتازت بالحرص على نجاة البشرية بدءا بالنفس فالأهل؛ يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}[التحريم:6]. لقد استهل النبي صلى الله عليه وسلم دعائم التربية بتنظيم البيوت، وإقامتها على منهج إسلامي خالص، يتحمل فيه المؤمنون تبعة أهليهم كما يتحملون تبعة أنفسهم، كما جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته”[9]، إنها التربية التي تتخذ من قصص الإسلام أساساً للعملية التربوية..فتراعي المشاعر والقدرات والفروق الفردية. وتمنح القصة ما لها من دور فعال في حياة الإنسان ولا سيما الصغير، فقد ذكر الله الكثير من القصص في كتابه العزيز كقصة أصحاب الكهف: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا}[الكهف:9]، والحديث عن الأمم الغابرة: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ}[الرعد:30]، وقد سلك النبي -صلى الله عليه وسلم- الطريقة نفسها؛ فذكر -صلى الله عليه وسلم_ قصة الثلاثة الذين دخلوا الغار، “انْطَلَقَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَتَّى أَوَوْا المَبِيتَ إِلَى غَارٍ، فَدَخَلُوهُ فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنَ الجَبَلِ، فَسَدَّتْ عَلَيْهِمُ الغَارَ، فَقَالُوا: إِنَّهُ لاَ يُنْجِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ إِلَّا أَنْ تَدْعُوا اللَّهَ بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ….”[10]، وقصة الأعمى والأبرص والأقرع؛ “إِنَّ ثَلاَثَةً فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ: أَبْرَصَ وَأَقْرَعَ وَأَعْمَى، بَدَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مَلَكًا…”[11] وغيرها، وقد كانت هذه القصص للتربية والتوجيه كإيضاح مبدأ، أو ترسيخ منهج أو دعوة إلى فكرة.. أو غير ذلك. وهذه أجل مستويات الاستخدام التربوي لأهداف القصة؛ وذلك لما يكتسبه الطفل من خلالها بتعويده على الحوار الهادف والاستجواب الموضوعي والتشبيه المنطبق والتفكير الواعي…. فالتربية بالقصّة لها وقع خاص في نفس الطفل، وبها يستطيع المربي أن يتناول أوجه نشاطات الحياة، ويؤطر في المربى مختلف الميول والأحاسيس الإنسانية، وعبرها يهذب نفوس الناشئة ويقوي علائقهم بأسرهم، وينمي فيهم روح التعاون والاحترام؛ وذلك بالاعتماد على أسلوب الاستفهام والمناقشة وإيقاظ الفكر وتوضيح الغامض؛ مما ينشئ الفعالية الإيجابية، والشعور بالوجود والثقة الذاتية. وليس نزول كتاب الله تعالى منجما إلا صورة لذلك، وحتى يتناسب مع الأحداث الجارية في المجتمع؛ كما هو شأن حادثة الإفك؛ {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[النور:11]، وكبيان ما كان من الابتلاء في غزوة أحد؛ {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ…}[آل عمران:152]، هذا ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يترك فرصة إلا بين للصحابة من خلالها جليل آلاء الله تعالى عليهم؛ فحين مر بامرأة تضم ولدها وترضعه بادر بتنبيه الصحابة رضي الله عنهم إلى عظيم رأفة الله تعالى ورحمته بخلقه قائلا: “أترون هذه طارحة ولدها في النار»؟ قلنا: لا، وهي تقدر على أن لا تطرحه، فقال: «لله أرحم بعباده من هذه بولدها” [12].

وقد جاء الكثير من أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- نموذجا لهذا المنهج؛ كما في حديث جبريل -عليه السلام- يقول عمر رضي الله عنه: “بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام؟….”[13]، وكذلك عندما شبه –صلى الله عليه وسلم- الصلاة بالنهر الذي يغتسل منه المسلم كل يوم خمس مرات؛ “أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمسا، ما تقول: ذلك يبقي من درنه؟….”[14]. إنها التربية التي تستهدف كل الفئات وكافة الجوانب الحيوية للفرد والمجتمع فتزكي الأنفس وتطهرها من أدران النوايا السيئة وأمراض الحسد والأنانية وغيرها؛ لتغرس فيها القيم النبيلة والأخلاق الرفيعة، وتعودها على الطاعة وعبادة الله وحده؛ كما بين ذلك الرسول -صلى الله عليه وسلم- حيث قال: «إن خياركم أحاسنكم أخلاقا»[15]. ولا يتأتى ذلك إلا بتزويد الناشئة بالعقيدة الصحيحة عبر تقديم المسائل الإيمانية والمباحث العقدية بشكل مبسط خال من الجدل العقيم، رغم ضرورة تعميق هذا التصور باستخدام الأدلة العقلية والحقائق العلمية لتكوين عاطفة قوية دافعة إلى السلوك الحسن لدى الأبناء، عبر بناء أخلاقي تراكمي؛ يقول ابن القيم: (ومما يحتاج إليه الطفل غاية الاحتياج الاعتناء بأمر خُلُقه؛ فإنه ينشأ على ما عوّده المربي في صغره)[16]. فلا بد من تزويد الأطفال بأهمية الأخلاق والعمل على غرس محاسنها في قلوبهم، وتوعيتهم بمعالمها وحدودها وضوابطها، وتنمية روح الالتزام والإرادة الأخلاقية بموجب ما تكتنزه نفوسهم من العقيدة الصحيحة. ومن المعلوم أن عنوان حسن الخلق الارتباط بالخالق والشعور بالحاجة الملحة إليه، وذلك بالاستمرار على اللهج الدائم بذكره سبحانه. والمعايشة الدؤوبة مع القرآن الكريم والسنة المطهرة؛ لإثارة العاطفة الدينية وإيقاظ الفطرة السليمة الكامنة في نفس الإنسان، فملاقحة العقول والأرواح والنفوس معاً بهذا الوحي تجعلها متناغمة جميعاً ومنسجمة في عبوديتها للخالق الديان. إن الأسلوب الأمثل في ذلك أن يكون صرح التربية مشيدا على ميزان الترغيب والترهيب، وهو أسلوب تربوي إسلامي راسخ، قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}[التوبة:105]، فحين جلى القرآن الكريم العقيدة الصحيحة وأقام عليها البراهين ورغب في الأعمال الصالحة وحذر من الطالحة، رتب على ذلك السعادة في الدارين لمن آمن وأطاع، والعذاب الأليم لمن خالف وعصى. فالتشجيع وإيجاد الدافع لتحقيق الأهداف التربوية له دور كبير في استنفار الحماسة لدى المربى.. ومن أبلغ ذلك استخدام عبارات الثناء والمدح بعدل وموضوعية، فإنها دافعة لمزيد من الاجتهاد والبذل. وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يشجع أصحابه رضي الله عنهم؛ كما في قوله لأبي هريرة رضي الله عنه حين سأله عن أسعد الناس بشفاعته؟:«لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك؛ لما رأيت من حرصك على الحديث. أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة، من قال لا إله إلا الله، خالصا من قلبه، أو نفسه»[17]. فهذا قمة التشجيع على طلب العلم، وإن صاحبه تقدير لحالة المتلقي كان أثمر وأفيد. ولقد كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- ينظر إلى أحوال صحابته رضي الله عنهم من حيث نشاطهم فيتخولهم بالموعظة مخافة السأم عليهم [18]. فلا بد من الترويح؛ يقول ابن شهاب الزهري: “روحوا القلوب، ساعة وساعة”[19]. ومن الحكمة في ذلك المغايرة بين المواضيع، والتنشيط عبر الفواصل، والتشويق وتنويع الأساليب. ولن يتسنى للناشئ أن يستفيد من التربية العلمية ما لم تعزز لديه ملكة الحفظ، ويوثق فيه المزج بين النظري والعملي، وتنمى فيه أهم عوامل النجاح والتفوق المعرفي من خلال توجيهه بين الحين والآخر إلى الأمور التي تعينه في حياته العلمية؛ كالتوجيه إلى أنسب أساليب المذاكرة العلمية، والبدء في ذلك المهيع بأسلم طرق النطق والفهم والكتابة والنظام، واستيعاب الأمور الكلية قبل الجزئية. واستغلال الطاقات الهائلة التي يكتنزها، عبر إذكاء روح الثقة لديه، وجعل ما يملكه من تراكم معرفي قائدا له إلى التطبيق من خلال تحويل معارفه إلى طاعة لله تعالى، وتحقيقه بوساطتها منافع ملموسة معنوياً ومادياً. فالتربية هي صناعة الإنسان، بأعلى المواصفات، وتشكيله في أجمل الصور وتوجيهه لأمثل الطرق، وتزويده بأجل مستويات الاستعداد لتحقيق الوظائف التي خلق من أجلها والأهداف المنوطة به في هذه الحياة، فعن طريق التربية الرشيدة يتم حل مشكلات البشر، وبوساطتها يكون تحقيق السعادة، وبناء الفرد والمجتمع أخلاقياً في الحياة الخاصة والعامة، وإعداد مجتمع من الأخيار تسوده روح الخير والتسامح والمحبة والأخوة، مجتمع إسلامي يعي ضرورة الوحدة الترابطية في حياته، كما جاء في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى” [20]. ذلك أن دور التربية محوري في تكوين الفرد على الخضوع للنظام الأخلاقي، والتعلق بالمجتمع، كما جاء في حديث عَرْفَجَةَ بْنِ شُرَيْحٍ الْأَشْجَعِيِّ رضي الله عنه  قَالَ: (سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: “فَإِنَّ يَدَ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ، وَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ من فارق الجماعة يرتكض”)[21]. فيد الله مع الجماعة، وليست العزلة إلا مرض يقود صاحبه إلى التهلكة، ويتنافى مع ما تسعى إليه الشريعة من تكوين شخصية قوية متزنة جمعية حضارية، بناءة تتحلى بالإيثار والتخلي عن الأنانية، شخصية مبناها على الثقة بالنفس، والاعتزاز بالماضي الإسلامي وتاريخ الأمة العريق، شخصية تقتفي آثار سلفها الصالح؛ في إحياء مجده الشامخ، وتاريخه العريق. شخصية لا تقتصر على مجرد الافتخار بمجد الآباء، بل تقتدي بهم في صناعة الأمجاد، ويجسد واقعها قول القائل:

لسنا وإن كرمت أحسابنا

 أبدا على الأحساب نتكل

نبني كما كانت أوائلنا

تبني ونفعل مثل ما فعلوا[22].

شخصية لا يخالجها الشعور بالنقص بالنسبة إلى الأمم المتقدمة تكنولوجيا اليوم. والتي كانت بحق أكثر تخلفاً وجهلا، ولا تزال شعوبها أعمق جهالة، وساستها أوغر وحشية، وأقل رحمة وأبعد عن ضمير الإنسانية، ولا غرو فالحضارة المادية اليوم تقف كالطائر الذي يرف بجناح واحد جبار، بينما جناحه الآخر مهيض، فيرتقي في الإبداع المادي بقدر ما يرتكس في المعنى الإنساني ويعاني من القلق والحيرة والأمراض النفسية والعصبية.. وسيظلون كذلك ما لم يهتدوا إلى منهج الله، الذي هو وحده العلاج والدواء. إن الشخصية التي تسعى التربية الجادة إلى تكوينها لا تكتفي بمجرد الاتكاء على ترديد مثل قول الفرزدق:

أولئك آبائي فجئني بمثلهم

إذا جمعتنا يا جرير المجامع [23].

بل هي تلك التربية التي تسعى إلى إيجاد الشخصية المتوقدة إنتاجاً وحيوية، فلا يجد العجز إليها سبيلا، ولا يلفى اليأس فيها منفذا، شخصية نبتت في أرض الكرامة، وتغذت بلبان العبودية لله تعالى، وسقيت بماء التضحية، وقامت على رعاية حقوق الأمة. فارتفعت عن دنس كل رذيلة، وحازت زمام كل فضيلة، وترعرع عودها في كنف خشية الله تعالى والرغبة إليه والرهبة منه، إنها الشخصية المجتمعية التي تم تشييدها عبر البناء التراكمي الأصيل، الذي يؤسس لمجتمع يترقى في درجات النهوض ويحلق في سماء المعالي، مجتمع يشهد فيه الترابط بين الواقع النفسي للناس والواقع الخارجي الذي يكون قضاء وقدرا أوج ازدهاره، مجتمع يضع نصب عينيه ذلك الارتباط القائم والوثيق بين عمل الإنسان وشعوره وبين مجريات الأحداث في نطاق السنة الإلهية الشاملة للجميع. مجتمع لا يسمح بتمزيق هذا الارتباط، ولا يقبل الإخلال بذلك التناسق، مجتمع يستسلم لسنة الله الجارية، مجتمع يعي كنه الصراع الأزلي بين الحق والباطل، ويمتلك آليات طرد أعداء البشرية ويمنعهم من الحيلولة دون هداية الناس، مجتمع يسلك طريقه إلى ربه الكريم..بهمة عالية وعزيمة نافذة، على قدر قول المتنبي:

على قدر أهل العزم تأتي العزائم

 وتأتي على قدر الكرام المكارم[24]

ذلك أن المجتمع الإسلامي بدأ خط صعوده من نقطة التقاء القوانين الطبيعية في حياته مع القيم الإيمانية. وبدأ خط هبوطه من نقطة افتراقهما. وظل يهبط ويهبط كلما انفرجت زاوية الافتراق حتى وصل إلى الحضيض عند ما أهمل السنن الطبيعية والقيم الإيمانية جميعا..

إن المجتمع الإسلامي هو ذلك الذي يبين للكائن البشري تبعة مصيره، ويجعل أمره بين يديه في إطار المشيئة الكبرى، فيثير في حسه كل مشاعر اليقظة والتحرج والتقوى. وهو يعلم أن قدر الله فيه يتحقق من خلال تصرفه هو بنفسه. مجتمع يشكل قوة ذات آثار إيجابية في هذا الوجود، ولها ارتباط بسنة الله الشاملة للكون.. قوة تعمل بتناسق، وتعاط مثمر بناء. قوة تؤمن بعدل الله تعالى في معاملة عباده؛ إذ لا يسلبهم نعمة وهبهم إياها إلا بعد أن يغيروا نواياهم، ويبدلوا سلوكهم، ويقلبوا أوضاعهم، فيستحقوا أن يغير الله ما بهم مما أعطاهم من النعم والآلاء التي لم يقدروها ولم يشكروها.. فإنه لا يغير نعمة أو بؤساً، ولا يغير عزاً أو ذلة، ولا يغير مكانة أو مهانة … إلا أن يغير الناس من مشاعرهم وأعمالهم وواقع حياتهم، فيغير الله ما بهم وفق ما صارت إليه نفوسهم وأعمالهم. وإن كان الله يعلم ما سيكون منهم قبل أن يكون [25]. ولكن ما يأتي لهم أو يقع عليهم يترتب على ما يكون منهم، ويجيء لاحقا له في الزمان بالقياس إليهم. وهو تكريم عظيم يقابله إلقاء تلك التبعة العظيمة على هذا الكائن. فهو يملك أن يستبقي نعمة الله عليه؛ إن كمل إيمانه بالله تعالى، واستقام على عبادته، وأقر بضرورة تطبيق شريعته في الأرض، وهيمنتها على النواميس الكونية، وغير ما بنفسه بشكل إيجابي، فإن الله يريد به الحسنى في الدنيا وفي الآخرة، أما إذا لم يستجب له سبحانه فلن تغني عنه فدية إذا جاءه- غير مستجيب- يوم الحساب! إذ اقتضى حاله أن يريد الله به السوء فمضت إرادته ولم يقف لها أحد، ولن يعصمه من الله شيء، ولن يجد له من دونه ولياً ولا نصيراً.  

ومن الجدير بالذكر في ذلك أن شريعة الله للناس ليست إلا طرفاً من قانونه الكلي في الكون. فإنفاذ هذه الشريعة لا بد أن يكون له أثر إيجابي في التنسيق بين سيرة الناس وسيرة الكون.. ذلك أن الشريعة يأتي تجسيدها ثمرة للإيمان؛ ولا يمكن أن تقوم وحدها من غير أن تنفذ في مجتمع مسلم، وتكون الأساس في بناء ذلك المجتمع.  لتنشئ فيه تقوى الضمير، ونظافة الشعور، وضخامة الاهتمامات، ورفعة الخلق، واستقامة السلوك … فيتم التكامل والتناسق بين سنن الله كلها سواء نظماً طبيعية أو قيما إيمانية.. فكلها أجزاء لسنة الله تعالى الشاملة لهذا الوجود.

وبما أن الإنسان ليس إلا جزءاً من ذلك الوجود، فيجب أن يكون عمله وإرادته، وإيمانه وصلاحه، وعبادته وحسه وخواطره ونواياه.. كلها لنيل مرضاة الخالق الديان، الذي فطر الوجود بأسره، فاقتضت الفطرة السليمة استسلام النفس السوية لشرعه وقضائه، تلك النفس التي حين تمتلكها الرهبة الخاشعة لا تجد غير أن تلجأ إليه سبحانه، لتطمئن في حماه وتسعد في بحبوحة رحمته..فيسهل عليها القيام بتبعة الأمانة الثقيلة الملغاة على كاهلها! ذلك أن هذا الإنسان حاجته ماسة ودائمة للرجوع إلى الموازين الإلهية الثابتة، ليكون مسددا ويظل على يقين أن هواه الذي قد يقوده إلى التهلكة لم يخدعه، ولم يضلله، ذلك الهوى الذي غالبا ما يحيق مكر الله على من جعله إلهه.

بخلاف من ظل قريباً من الله تعالى مرتميا في أحضان عبوديته بتحقيق ألوهيته، يهتدي بهديه، ويستضيء بالنور الذي أمدّه به في متاهات الطريق! ليتمكن من تزكية نفسه وتطهيرها من دنس الآثام وأدران المعاصي… فإنه في مأمن من أن يحيق به المكر السيئ، بل يبقى بعيدا عن الخيبة التي ينتهي إليها من يدسي نفسه، فيحجبها عن الهدى ويتركها تتدهده في مهاوي الرذيلة.

لقد أوجب الله تعالى على الناس أن يستخدموا ما حولهم في تزكية أنفسهم وتطهيرها وتنمية استعدادها للخير، وذلك بالتربية على خشية الله تعالى من خلال التأسيس العقدي المكين منذ الصغر؛ يقول كامل بن حسين الغزي: (طلب العلم في الشريعة الإسلامية فرض عين وفرض كفاية. فالأول هو تعلم كلمتي الشهادة وفهم معناهما وكل ما يجب اعتقاده، ثم تعلم أحكام الطهارة والصلاة والصوم والحج والزكاة حين وجوب كل فريضة منها على المكلف بها، ثم تعلم ما يجب عليه تركه من النواهي كالزنا وشرب الخمر والسرقة وقتل النفس وما يجب عليه إتيانه من بر الوالدين وإنجاز الوعد ووفاء العهد وأداء الأمانة…) [26].

 ويتحقق الغرض من ذلك بإقامة صروح التربية على البناء العلمي الرصين، يقول ابن الجوزي ناصحاً ابنه: (فينبغي لذي الهمّة أن يترقّى إلى الفضائل، فيتشاغل بحفظ القرآن وتفسيره، وبحديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وبمعرفة سيره وسير أصحابه والعلماء من بعدهم، ولا بدّ من معرفة ما يقيم به لسانَه من النحو، ومعرفة طرف مستعمل في اللغة، والفقه أصل العلوم، والتذكير حلواؤها وأعمّها نفعاً) [27].

ويتم ذلك من خلال التنويه بفضل العلم ومكانة العلماء، وغرس الشغف بالكتاب ومجالس العلماء في نفوس الأطفال، وتعليمهم آداب الطلب، والتركيز على التخصّص العلمي حسب الاستعداد والميول، مع التدريب على منهجية الطلب التي لا بد أن تحاط بسياج من الإخلاص والعبادة؛ يقول أبو الوليد الباجي لابْنيْه موصياً لهما: (وتنقسم وصيّتي لكما قسمين: فقسم فيما يلزم من أمر الشريعة؛ فأما القسم الأول فالإيمان بالله عز وجل… والتمسك بكتاب الله… وإقام الصلاة فإنها عمود الدين… ثم أداء زكاة المال لا تؤخّر عن وقتها… ثم صيام رمضان فإنه عبادة السرّ وطاعة الربّ… ثم الحج إلى بيت الله الحرام من استطاع إليه سبيلاً…) [28]، ويكون ذلك بتنمية روح المحبة للعبادات بالتعريف بها وذكر فضلها وأهميتها.

فالتنشئة الرشيدة للأبناء على العبادة لا بد أن تكون منذ المراحل الأولى، لتدريبهم عملياً عليها بالأساليب التربوية، وتحلية نفوسهم بالنيات الحسنة، وتطهيرها من المقاصد السيئة، وتكوين الوعي الكامل لديهم بالآثار التربوية للعبادات.. ، التي منها رعاية حقوق المجتمع بدءا بالوالدين والأولاد وذوي الأرحام والجيران؛ فيلزم إقناع الناشئة بأن الوقت الذي يمضونه في أداء الواجبات الاجتماعية ليس وقتا ضائعا؛ بل إن التعاون على البر والتقوى وحبّ الغير ومعاونته والعمل على نشر العلم وتقليل وطأة الفاقة كلها من دلائل السعادة وأمارات النجاح. ومن الجدير بالذكر أن أكثر حقوق الأولاد ترتبا تزويدهم بما يحتاجونه من معارف ومهارات فكرية أو علمية أو اجتماعية أو تقنية؛ يقول السعدي: (أولى الناس ببرّك وأحقّهم بمعروفك أولادك؛ فإنهم أمانات جعلهم الله عندك، ووصّاك بتربيتهم تربية صالحة لأبدانهم وقلوبهم… فإنك إذا أطعمتهم وكسوتهم وقمت بتربية أبدانهم فأنت قائم بالحقّ مأجور) [29]. هذا وينبغي للوالد أن يشاور أولاده في الأمور المتعلقة بهم، ويعمل على استخراج آرائهم، ويعوّدهم على الاستقلال والثقة بالنفس ويربي أفكارهم وينمي عقولهم. فخليق بالآباء أن يربّوا أولادهم على مبدأ الاعتماد على النفس والاستعداد إلى دخول معترك الحياة بإيجابية ونشاط.

بهذه النظرة الشاملة لحياة الفرد نجد مجتمعاً مترابطاً في كينونته، متماسكا في بنيته، يتحقق فيه قول النبي _صلى الله عليه وسلم_: “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى” [30]، فلا شك في أهمية التربية لبناء المجتمعات والأمم؛ إذ لا يمكن أن يبنى مجتمع أو أمة إلا من خلال تربية جادة مؤصلة، ولذلك فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – عندما بعث كان أول ما بدأ به التربية الشاملة، فبقي ثلاث سنوات – صلى الله عليه وسلم – وهو يربي الأمة في دار الأرقم سرا [31]، وعندما كون ذلك الجيل الصلب بقاعدته التربوية المؤصلة القوية أعلن دعوته، حيث كانت قد شيدت أركانها وأقيمت دعائمها. لذا يحتل موضوع التربية والتعليم الصدارة في أولويات المجتمعات المتحضرة التي تتمسك بتعاليم الإسلام وتنشد الرقي والازدهار. والتي لا بد أن يكون لها منهج تربوي تصيغ من خلاله نموذج المجتمع الإسلامي الذي تريده، ذلك أن البناء التربوي إذا اختل اضطربت مسيرة المجتمع وتعثر بناؤه وتوقفت عجلة تطوره. إن المجتمع الإسلامي الذي نؤمله ونطمح إلى تأسيسه هو ذلك المجتمع الذي شيد بنيانه على الأصلين الشريفين كتاب الله تعالى وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، وما استمده منهما السلف الصالح – رضوان الله عليهم-، مجتمع أصيل القواعد ضاربة في الجذور أسسه، عميقة ثوابته في دلالتها ومنطلقاتها لا تهزها هوج الرياح.

ذلك أن المسلم الذي يربى تربية تراكمية مؤصلة قد رست على أساس من التوحيد والاعتباد لله تعالى لا تكاد تتغير سيرته ويبعد أن يتبدل منهجه ولا يرضى أن تتحول قناعاته، بل يظل راسخا كالطود الشامخ على منهجه الأصيل، كما بين الله – جل وعلا-: {ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها}[إبراهيم:24]، إنها الكلمة الطيبة والشعور السمح الذي يضمد جراح القلوب، ويفعمها بالرضى والبشاشة. بل هي المغفرة التي تغسل أحقاد النفوس وتحل محلها الإخاء والصداقة[32] ، إنها شخصية المؤمن التي لا شيء فيها يعاب. وكما جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم شبه المسلم بالنخلة قَائلاَ: (“إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَة لَا تُسْقِطُ وَرَقَهَا وَهِيَ مِثْلُ الْمُسْلِمِ, فَحَدِّثُونِي مَا هِيَ”؟ فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ الْبَادِيةِ, وَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ, فَحَدَّثْتُ أَبِي مَا وَقَعَ فِي نَفْسِي فَقَالَ: لأَنْ تَكُونَ قُلْتَهَا أَحَبّ إِلَيَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا) [33]، فالمسلم في عصر الفتن والتبدلات السريعة والتغيرات المفاجئة حاجته ماسة إلى تثبيت من الله تعالى وثبات على المحجة البيضاء، كما وصفها النبي صلى الله عليه وسلم: “قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك”[34]، تلك المحجة التي يصدق عليها قول القائل:

  وليس يصح في الأذهان شيءٌ

إذا احتاج النهار إلى دليل [35]

وبالجملة فإنه ومن أجل إيجاد نسق تربوي عبادي متكامل وناجع ينبغي أن يبدأ المربون بتجسيد المنهج الإسلامي في أجلى صوره حتى يتسنى لهم إعداد أجيال حرية بالنجاح، قادرة على التحليق بالأمة إلى المعالي، ومؤهلة لتوحيد كلمة المجتمع على كلمة سواء، ومهيأة لإزالة العقبات عن طريق تطورها. مستوعبة لسنن ووسائل التغيير الإيجابي والنمو الممنهج، بل التأثير البالغ الذي يخالط بشاشة النفوس فيعيد البنية المجتمعية نحو الاتجاه الصحيح.


———————————————————————————————- [1] الوسيط في تفسير القرآن المجيد (2|525).

[2] مختار الصحاح ص:

18 [3] المعجم الوسيط ص:17

[4] لوامع الأنوار البهية (1|5)

[5] منهج التربية الإسلامية (1|180)

[6] الجاحظ: البيان والتبيين، تحقيق حسن السندوبي، ج2، ط4، المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة، 1956م، ص75.

[7] أدب الدنيا والدين ص:36

[8] أخرجه مسلم |كتاب الذكر والدعاء |باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر |ح(2699).

[9] كتاب الجمعة |باب الجمعة في القرى والمدن |ح(893)، ومسلم |كتاب الإمارة |باب فضيلة الإمام العادل، وعقوبة الجائر، والحث على الرفق بالرعية، والنهي عن إدخال المشقة عليهم |ح(1829).

[10] أخرجه البخاري |كتاب البيوع |باب إذا اشترى شيئا لغيره بغير إذنه فرضي |ح(2215). ومسلم |كتاب الذكر والدعاء |باب قصة أصحاب الغار الثلاثة |ح(2743).

[11] أخرجه البخاري |كتاب أحاديث الأنبياء |باب حديث أبرص وأعمى وأقرع في بني إسرائيل |ح(3464). ومسلم |كتاب الزهد والرقائق |ح(2964).

[12] أخرجه البخاري |كتاب الأدب |باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته |ح(5999). ومسلم |كتاب التوبة |باب في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه |ح(2754).

[13] أخرجه مسلم |كتاب الإيمان |باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان، ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله سبحانه وتعالى |ح(8). [14] أخرجه البخاري |كتاب مواقيت الصلاة |باب الصلوات الخمس كفارة |ح(528). ومسلم |كتاب المساجد |باب المشي إلى الصلاة تمحى به الخطايا وترفع به الدرجات |ح(667).

[15] أخرجه البخاري |كتاب الأدب |باب حسن الخلق والسخاء، وما يكره من البخل |ح(6035). ومسلم |كتاب الفضائل |باب كثرة حيائه صلى الله عليه وسلم |ح(2321).

[16] تحفة الموجود بأحكام المولود ص 240

[17] أخرجه البخاري |كتاب العلم |باب الحرص على الحديث |ح(99).

[18] انظر: البخاري |كتاب العلم |باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولهم بالموعظة والعلم كي لا ينفروا |ح(68). ومسلم |كتاب صفة القيامة والجنة والنار |باب الاقتصاد في الموعظة |ح(2821).

[19] جامع بيان العلم وفضله (1|434).

[20] أخرجه البخاري |كتاب الأدب |باب رحمة الناس والبهائم |ح(6011). وأخرجه مسلم |كتاب البر والصلة والآداب |باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم |ح(2586).

[21] أخرجه ابن حبان في صحيحه (4577). وأصله في صحيح مسلم |كتاب الإمارة |باب حكم من فرق أمر المسلمين وهو مجتمع |ح(1852).

[22] الآداب الشرعية والمنح المرعية (1|215).

[23] أخلاق الشباب المسلم ص:34

[24] انظر: ديوان المتنبي، أحمد بن الحسين الجعفي، ص (385) دار صادر، بيروت، الطبعة الأولى.

[25] انظر: في ظلال القرآن (4|2048).

[26] نهر الذهب في تاريخ حلب (1|145)، الناشر: دار القلم، حلب الطبعة: الثانية، 1419 هـ.

[27] صيد الخاطر ص:502

[28] النصيحة الولدية ص:15

[29] بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار ص:154

[30] سبق تخريجه

[31] السيرة النبوية والدعوة في العهد المكي ص:470

[32] في ظلال القرآن (1|308)

[33] أخرجه البخاري |كتاب العلم |باب الحياء في العلم |ح(131). ومسلم |كتاب صفة القيامة والجنة والنار |باب مثل المؤمن مثل النخلة |ح(2811).

[34] أخرجه ابن ماجة في باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين، ح(43). وصححه الألباني في تعليقه عليه. وأخرجه الإمام أحمد (17142). وصححه الأرنؤوط بطرقه وشواهده.

[35] التمثيل والمحاضرة للثعالبي ص:111



المصدر: مجلة البيان

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

انتقل إلى أعلى