الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله محمد النبي الأمين صلى الله عليه وسلم، أما بعد:
فمن رحمة الله البالغة بعباده أنه لا يؤاخذهم بما كسبته أيديهم بمجرد وقوعهم في الباطل، أو صدوره منهم، بل يسلك بهم طرقاً كثيرة لصرفهم عن ذلك، ورجوعهم من الطريق الوبيل الذي اختاروه، ولا يعاجلهم بالعقوبة، ما يبينَّ أن الشريعة متوجهة وحريصة على الإصلاح عن طريق سَوق ما يُوعظ به ويُعتبر قبل إيقاع العقوبات، ولا توقِع الشريعةُ العقوبةَ إلا:
أن تكون طريقاً من طرق الإصلاح لمن وقع في الإثم أو لمن يشاهد ويرى مخالفة الآخرين من باب الاعتبار والاتعاظ بما حاق بالمخالفين رغبة في ألَّا يسلك سبيلهم وألَّا يسير مسيرتهم.
أو طريقاً من طرق العقوبة لمن لم تُجدِ معه وسائل الإصلاح المتعددة جزاءً وفاقاً وما ربك بظلام للعبيد.
لذلك لم تكن الوسيلة الدعوية في نشر الخير والحض على سلوك سبيل الرشاد قائمةً على القهر والإجبار، إنما كانت بالدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن وإقامة الحجة ودحض الشبهة.. ولا تكون العقوبة إلا لمن عاند وأبى قبول الحق بعد ظهور الحجة وإقامتها كما قال تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت: 46]، قال ابن كثير في تفسير الآية: «من أراد الاستبصار منهم في الدين، فيجادل بالتي هي أحسن، ليكون أنجع فيه، وقوله: {إلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} أي: حادوا عن وجه الحق، وعموا عن واضح المحجة، وعاندوا وكابروا، فحينئذ ينتقل من الجدال إلى الجلاد، ويقاتلون بما يردعهم ويمنعهم».
وما ذكر القرآن من قصص الأمم السابقة مع رسلهم الذين جاؤوهم بالبينات والهدى، وعصيانهم لرسلهم، وما حاق بهم من العقوبة بعدما أتم لهم الرسل البيان وبعدما استبانت السبيل وقامت الحجة؛ ما ذُكر ذلك إلا بياناً للمنهج الذي ينبغي سلوكه في التعامل مع المخالفين، وليكون في ذلك أيضاً عظة وعبرة لمن يخالف عن طريق الهدى والصلاح حتى لا يغرُّه حلم الله عنه، فلا يتمادى في الشقاق والعصيان.. والعظة لا تقف عند حد المخالفين، وإنما تتجاوز ذلك لتكون عظة للمستجيبين لرسلهم الذين يلاقون من أقوامهم الصد والعنت والتعذيب ألواناً، لتكون العاقبة التي يدخرها الله لعباده المستقيمين على أمره القابضين على دينهم دافعاً لهم على الثبات والاستمرار في طاعة الله رغم ما يصيبهم، فإن الإنسان متى علم واستيقن من المآل الحسن الذي يصير إليه بعد الضيق والشدة، فإن ذلك يقوي احتماله ويعينه على الشدائد التي تمر به.
فما وردت تلك القصص وتكرَّرت على أنحاء متعددة إلا لتكون عظة للطرفين:
المكذِّبون للرسل ودعوتهم حتى يرجعوا من طريقهم الذي لا نهاية له غير خاتمة السوء.
والمؤمنون المشفقون من لقاء يوم يجعل الولدان شيباً، ليكون تثبيتاً لهم على تحمُّل مشاق الطريق كما قال الله تعالى لرسوله: {وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود: 120].
وقد تنوَّعت في ذلك القصص والأمثال وصرفها الله تصريفاً، ولم تقف عند نوع واحد؛ لتكون عظة وعبرة للناس كافة كما قال تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ} [الإسراء: 89]، وقريب منه قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ} [الكهف: 54]، قال الطبري – رحمه الله: «يقول عزَّ ذكره: ولقد مثلنا في هذا القرآن للناس من كل مثل، ووعظناهم فيه من كل عظة، واحتججنا عليهم فيه بكل حجة ليتذكروا فينيبوا، ويعتبروا فيتعظوا، وينزجروا عما هم عليه مقيمون من الشرك بالله وعبادة الأوثان»، وقال ابن عطية: «قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا} الآية، المعنى: ولقد خوفنا ووضَّحنا ونوَّعنا وبالغنا في البيان»، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} [طه: 113]، فتصريف أنواع من الوعيد على أنحاء متعددة كان الهدف منه أن يحصل للناس ما يتقون به سخط الله ونقمته لعصيانهم ومخالفة شرعه، أو يجعل الإنسان يقظاً غير لاهٍ، بل متذكراً لما هو مطالَب به ولما ينتظره بناء على تجاوبه مع ما أُمر به وطُلب منه، قال الطبري: «{لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} يقول: كي يتقونا، بتصريفنا ما صرفنا فيه من الوعيد {أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} يقول: أو يحدث لهم هذا القرآن تذكرة، فيعتبرون ويتعظون بفعلنا بالأمم السابقة التي كذبت الرسل، وينزجرون عما هم عليه مقيمون من الكفر بالله».
وقد أكد القرآن الغاية من التصريف فذكرها في أكثر من موضع، منها ما مرَّ، ومنها قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا} [الفرقان: 50]، ومنها قوله: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأحقاف: 27]، ومنها قوله: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا} [الإسراء: 41]، وقوله: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا}، فكانت تلك المواعظ والقصص والأمثال بقصد الذكرى والرجوع عن طريق الفساد وسلوك سبيل الرشاد باستعمال ما منَّ الله به على الناس من نعمة العقل والقدرة على التفكير الرشيد، كما قال تعالى: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 21]، وقوله: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 176]، وهذا ما يبيِّن أن القصص في القرآن أو السنة ليست كلاما للتسلية، وإنما قصص تقوم بالتربية المقصودة التي تربي الناس على التفكير السليم والحذر من الوقوع فيما يخالف شرع الله، كما تربي في النفس الصبرَ على المكاره والعقبات التي تعترض السائرين في طريقهم إلى الله تعالى.
فقد قصَّ علينا القرآن قصة الملك الكافر الذي ادَّعى القدرة على الإحياء والإماتة لما آتاه اللهُ الملكَ حتى قيَّض الله له إبراهيم عليه السلام فحاجَّه وقطعه حتى بُهت، وهو ما يعني أن الملك والسلطان لا يضفي على الباطل قوة أو صواباً، وأن من وفقه الله فهو قادر على إفحام هؤلاء وإن كان فرداً لا حول له ولا قوة.
وقصَّ علينا أيضاً قصة أكبر طاغية في التاريخ الذي بلغ من طغيانه أنه ادَّعى الربوبية فقال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات: 24]، بعدما أراه موسى عليه السلام الآية الكبرى الدالة على صدقه فيما دعاه إليه، ثم ننتقل إلى نهاية هذه القصة لنرى هذا الطاغية وهو يغوص في لجج البحر حتى يدركه الغرق فلا يجد شيئاً يتمسك به أو يتوسل به للنجاة من مصيره المحتوم إلا أن يقول: {آمَنتُ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْـمُسْلِمِينَ} [يونس: 90]، قالها صاغراً ذليلاً. وعلى الجانب الآخر نرى مشهد نصر الله تعالى لموسى ومن آمن معه وقد نجاهم من بطش الطاغية ومكَّن لهم في الأرض، {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 5]، ليكون في ذلك عبرة وعظة للمفسدين المتكبرين المتجبرين الذين لا يرجون لله وقاراً، والذين يظنون أن مُلكهم وسلطانهم يمنعهم من الله تعالى، أو أنه يجعل لهم مكانة تحميهم من جريان سنة الله عليهم، وكذلك ليكون تسلية وتسرية عن المؤمنين المستضعفين في الأرض ليوقنوا أن نصر الله لا يتخلف عن عباده المؤمنين به الصادقين في إيمانهم القابضين عليه ما داموا مستمسكين به، ما يحيي الأمل في نفوس المؤمنين في كل عصر ومصر بتمكين الله لعباده الصالحين كما قال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِـحُونَ} [الأنبياء: 105]، وكما قال تعالى: {إنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر: 51].
وقد قصَّ علينا القرآن قصة اليهود الذين خانوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم احتموا بحصونهم وقلاعهم وظنوا أنها تمنعهم من نفاذ ما قضاه الله، لكنها لم تنفعهم وحصل لهم ما قضاه الله تعالى، وعقَّب القرآن بعد إيراده هذه الواقعة فجاء قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2]، قال ابن كثير: «أي: تفكروا في عاقبة من خالف أمر الله وخالف رسوله، وكذَّب كتابه، كيف يحل به من بأسه المخزي له في الدنيا، مع ما يدخره له في الآخرة من العذاب الأليم».
كما قصَّ خبر الرجل الذي غرَّه ما أنعم الله به عليه من سعة العيش حتى طغى وظنَّ أن لا أحد يقدر على نزع ما معه من الملك، وأنه لا يرجع إلى الله، ولئن رجع إليه فليجدنَّ في الآخرة خيراً مما له في الدنيا، فأهلك الله بستانه حتى لا يكون في ذلك اغترار من أحد بما وسع الله عليه به، قال الله تعالى: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِـمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا 53 وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا} [الكهف: 35– 36]، كما وعظتنا الآيات برجل من أهل العلم منَّ الله به عليه لكن انسلخ منه فقال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ 175 وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 175 – 176]، وإذا كان الله تعالى قد قصَّ علينا قصص الأنبياء والمرسلين مع أقوامهم تفصيلاً، فإنه قد أجملها أحياناً فسرد أكثرها في جمل متلاحقة لينوِّع المسلمُ في دعوته بين التفصيل والإجمال، قال تعالى: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا} [العنكبوت: 40]، وبيَّن الله تعالى بعـد معاقبتهم إنه لم يفعل ذلك ظلماً منه لهم سبحانه وتعالى عن ذلك، بل هم الظالمون لأنفسهم لما كذبوا رسله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت: 40].
ولو انزجر الناس واتعظوا بما وعظهم الله به، وبما يقع تحت أسماعهم وأبصارهم من المواعظ والزواجر التي لا تخلو منها الحياة، والتي لا يكاد يمر يوم إلا وقع شيء من ذلك؛ لانصلح حال كثير من الأمم، وانحسر الفساد والضلال وانحصر في أدنى مستوياته، ولثبت المؤمنون على دينهم وعضوا عليه بالنواجذ لا يزعزعهم عنه شدة أو كرب؛ لعلمهم ويقينهم بما يؤول إليه حال الفريقين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيان هذا الصنف: «كان الرجل فيمن قبلكم يُحفر له في الأرض، فيُجعل فيه، فيُجاء بالمنشار فيُوضع على رأسه فيُشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه»[1]، وفي حضِّه للثبات على الحق وعدم التفريط فيه ولو واجه المسلم ما واجه يقول صلى الله عليه وسلم: «ألا إن رحى الإسلام دائرة، فدوروا مع الكتاب حيث دار، ألا إن الكتاب والسلطان سيفترقان فلا تفارقوا الكتاب، ألا إنه سيكون أمراء يقضون لكم، فإن أطعتموهم أضلوكم، وإن عصيتموهم قتلوكم». قـــيل: يا رسول الله، فكيف نصنع؟ قال: «كما صنع أصحاب عيسى ابن مريم، نُشروا بالمناشير وحُملوا على الخشب، موتٌ في طاعة خيرٌ من حياة في معصية الله عزَّ وجل»[2].
وهذا مما يبيِّن العناية التامة بهذا الأسلوب في الدعوة إلى
الله تعالى وإلى دينه القويم، والبَدء به لأنه الأحق بالتقديم.
مجلة البيان العدد 302 شوال 1433هـ، أغسطس 2012م.
[1] أخرجه البخاري في صحيحه رقم 3612.
[2] المعجم الصغير للطبراني رقم 749.