11111111

طالبُ العلم .. والمذاكرة


طالبُ العلم .. والمذاكرة

مشاري الشثري

بسم الله الرحمن الرحيم
11111111تحتلُّ المذاكرة العلمية مرتبةً متأخرةً في سلم أولويات كثير من طلبة العلم ممن يراوح قدميه بين حضور الدروس والتلقي عن الأشياخ، وبين الانكفاء على نفسه متحفِّظًا لمتنه مستشرحًا لكتابه، وقلَّما تجد للطالب مجلسًا راتبًا يذاكر فيه العلم مع أقرانه وأشياخه، يلاحي فيه أفذاذ الطلبة مستنطقًا بملاحاته مكنونَ علومهم، راجيًا بها تلقيحَ عقله وعقولهم، وهذا يفوِّت عليه كثيرًا من العوائد النافعة التي احتكرت تقديمها مجالس المذاكرة.

لما أنجزتُ كتابي البِكرَ (غمرات الأصول) دفعتُ به إلى جمعٍ من الأشياخ والطلبة طمعًا في نوال ملحوظاتهم، غير أن أحد الخُلَّص اقترح عليَّ أن نجلس لنقرأه معًا، فرَمَحَ اقتراحُه غايةَ رضاي، ثم هاتفتُ وراسلتُ بعض الأقران طالبًا منهم مشاركتنا إن اتَّسع وقتهم .. وفعلًا .. جمعتْنا مجالسُ لم تتجاوز الخمسة، قرأت فيها عليهم كتابي، وقد كنت قرأتُه وحيدًا مرَّات ومرَّات، غير أن قراءة المذاكرة في تلك المجالس كانت استئنافًا للمزيد من التحريرات، ونفخًا لروح جملةٍ من الأفكار، فالمذاكرة دفعت الكتاب من عين المؤلف الحانية إلى مشرحة الـمُذاكِرِين الصارمة، تجتالني الحمية لكتابي تارةً، وأتطامن لانتقادات الـمُذاكرِين تارات، هذا يعترض على تقرير مسألة، وذاك يطعن في صياغة فكرة، والثالث يطالب بإيضاح غريب، والرابع يرجح حذف مقطع، والخامس يقترح إضافة مبحث، وأنا أكدُّ ذهني وأستحثُّ رأيي وأُعمِلُ قلمي مصوِّبًا شارحًا حاذفًا مضيفًا … إضافةً لفوائدَ تطوَّعت بالقدوم دون استثارة مباشرة، مع ثغراتٍ تكشَّفتْ حالَ شرح بعض الأفكار المنثورة .. وكان من ضمن الجمع كاتبٌ كان قد زجَّ بمؤلَّفٍ حديثٍ له إلى المطبعة، وقد تمنَّى مع ختم هذه المجالس أنْ لو صنع بكتابه مثل ما صنعتُ لِـمَا رأى من عوائد المذاكرة وفوائدها.

******

سعيد بن عبدالعزيز من أعلام القرن الثاني (167هـ)، وكان من العلم والعمل بمكانٍ عليٍّ، ويكفي من ترجمته أنه يُقاسُ في الفضل بالإمام الأوزاعي (157هـ) مع أنه معدودٌ من تلامذته المتلقِّين عنه، بل كان أبو مسهر (218هـ) وهو ممن تلقَّى عن سعيدٍ يقدِّمُهُ على الأوزاعي، والأوزاعيُّ نفسُه كان إذا سُئل عن مسألة وسعيدٌ حاضرٌ يقول: سلوا أبا محمَّد.

وقد كان للأوزاعي مذهبٌ فقهي متبوع، انتحله أهل الشام حتى المئة الرابعة، بل كان أهل المغرب يتمذهبون بفقهه قبل أن يدخل إليهم مذهب مالك رضي الله عن الجميع[1] .. ثم اندثر مذهبه، وفَنِيَت معالمه، وكان لذلك أسباب عدة ليس هذا محلَّ بسطها، لكنَّ في أطمار تاريخ أبي زرعة الدمشقي خبرًا عزيزًا عن سعيد بن عبدالعزيز يكشف جانبًا من جوانب هذا الفناء، وذلك أنَّ أبا مسهر حدَّث أن سعيد بن عبدالعزيز قام معاتبًا أصحاب الأوزاعي قائلًا لهم في زفرة مخنوقة: (ما لكم لا تجتمعون؟! ما لكم لا تتذاكرون؟!)[2].

كنتُ قبل زمن أجمع مادَّةً لكتابة هذه الورقة (طالب العلم .. والمذاكرة) .. أنشأت ملاحظة جواليَّة مستقلة على عادتي في كتابة أيَّةِ مادَّةٍ أهيِّئها للنشر، وكلَّما وقفتُ على نقلٍ أو سيق إليَّ نصٌّ، وكلَّما سنح لي خاطرٌ = قيَّدتُه، غيرَ أنَّ لهذا الخبر امتيازًا أنبت الفرحة في قلبي.

سعيدٌ يتكلم عن مذاكرة العلم، لكن في سياق المعاتبة، وكأنه استقلَّ جهد طلاب الأوزاعي في حمل علمه وتدوينه وتحريره .. نعم، ظلَّ للأوزاعي مذهبٌ زمنًا، لكنَّ دعائمَ البقاء لم تكن كافية في استشراف سعيد، وجاء السياق الزمني شاهدًا لصدقه، فانظر أي أثر لمذاكرةِ الطلبة علمَ العالم في بقائه واستقراره.

ما لكم لا تجتمعون؟! ما لكم لا تتذاكرون؟!

هل كان سعيدٌ يقصد من هذه المعاتبة أن يدل الطلبة على تقصيرهم في العناية بعلم شيخهم، أو أنه لاحظ فتور الروح العلمية المشتركة في ميدان الأوزاعي بصرف النظر عن جمع علمه وتحريره، أو أنه رأى في غياب المذاكرة وعاءً حاويًا لهذا الفتور وذاك التقصير؟

أيًّا ما كان السبب، فغياب المذاكرة في الميدان العلمي نذير خمول وبادرة فتور لها آثار ذميمة تستحق المعالجة، ولذلك قام سعيد يستنهض طلاب الأوزاعي لتدارك الأمر.

صاحب التاريخ الذي حمل إلينا خبر سعيد هو الإمام عبدالرحمن بن عمرو النَّصْري، شيخُ الشباب، أبو زرعة الدمشقي (281ه)، وهو من كبار أعلام الشام، وكثيرًا ما يلتبس بأبي زرعة الرازي (264هـ)، وهذا الالتباس من صالح هذه الورقة، فالحديث عنه معبَرَةٌ لطيفةٌ لخبرٍ يتعلق بأبي زرعة الرازي.

هذان الإمامان – الدمشقي والرازي – من الأقران، وقد تلقَّى كل واحد منهما عن الآخر، وإن كان الدمشقيُّ أسنَّ من الرازي، فقد وُلِد قبله، وتوفي بعده بسبعَ عشرةَ سنةً، والحظوة بالكنية حالَ تجرُّدها من النسبة لصالح الرازي، وذلك لفرط إمامته واتِّساع عطائه، مع كون الدمشقيِّ أسبقَ في التكنية بها، بل إنه سبب تكنية الرازي بها!

وذلك أن المراوزةَ أهلَ الريِّ لما قدموا دمشق التقوا بأبي زرعة الدمشقي، وأعجبهم علمُه، فلمَّا عادوا إلى الريِّ كنوا صاحبهم الرازيَّ بها[3]، وقد علم بذلك أبو زرعة الدمشقيُّ، وعن ذلك يقول: (قدم علينا جماعة من أهل الري دمشق قديمًا، منهم أبو يحيى فرخويه، فلما انصرفوا – فيما أخبرني غير واحد، منهم أبو حاتم الرازي – رأوا هذا الفتى قد كاس[4] – يعني أبا زرعة الرازي – فقالوا له: نكنيك بكنية أبي زرعة الدمشقي .. ثم لقيني أبو زرعة الرازي بدمشق، وكان يذكرني هذا الحديث، ويقول: بكنيتك اكتنيت)[5].

الرازيُّ كالدمشقي ممن تلقى العلم عن إمام الدنيا أحمد بن حنبل (241هـ)، وقد روى عنه الدمشقيُّ كثيرًا في تاريخه، غير أنَّ للرازي مزيدَ اختصاص بالإمام، حتى إن الإمام أحمد كان يحفل بمجالسه معه، وهنا حَجَرُ الزاوية، فقد روى ابن عساكر في تاريخ دمشق أن أبا حفص عمر بن محمد بن رجاء قال: سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل يقول: لما قدم أبو زرعة – يعني الرازيَّ – نزل عند أبي، فكان كثير المذاكرة له، فسمعت أبي يومًا يقول: )ما صليتُ غير الفرض .. استأثرتُ بمذاكرة أبي زرعة على نوافلي)[6].

فانظرْ أيَّ مقامٍ للمذاكرة في خارطة اهتمامات الإمام أحمد.

وقبلَه محمد بن الحسن الشيباني (189هـ)، صاحبُ أبي حنيفة، فقيهُ العراق وفخرُ أهل الكوفة، مالئُ عين وقلب الشافعي (204هـ)، فقد ذكر الربيع بن سليمان أن رجلًا سأل الشافعيَّ مسألةً فأجابه، فقال له الرجل: يا أبا عبدالله، خالفك الفقهاء. فقال الشافعي: (وهل رأيتَ فقيهًا قط؟! إلا أن تكون رأيتَ محمد بن الحسن، فإنه كان يملأ العين والقلب، وما رأيت مبدنًا قط أذكى من محمد بن الحسن)[7].

تلمذ له الشافعيُّ وتخرَّج به حتى قال: (أمنُّ الناس عليَّ في الفقه محمد بن الحسن)[8] .. وبقدر إعجاب التلميذ بشيخه كان الشيخ معجبًا بتلميذه، فقد كان محمد بن الحسن حفيًّا بالشافعي، يعرف له قدرَه وسموَّ عقله، حريصًا على مجالسته ومذاكرته، ولو أدَّاه ذلك إلى تفويت عزائمه وتأجيل روابطه، ومن ذلك ما قصَّه أبو حسان الزيادي، فقد قال: (ما رأيتُ محمد بن الحسن يعظِّمُ أحدًا من أهل الفقه إعظامَه للشافعي، ولقد جاءه يومًا فلقيه وقد ركب محمد بن الحسن، فرجع محمد إلى منزله، وخلا به يومه إلى الليل، ولم يأذن لأحد عليه)[9].

كذلك يزن الرجال أشباههم، فلم يفوِّت محمد بن الحسن فرصة مذاكرة الشافعي، فخلا به ولم يأذن لأحد بالدخول عليه.

هذه ثلاثة أخبار تتعلق بمقام المذاكرة العلمية: معاتبةُ سعيد بن عبدالعزيز طلابَ الأوزاعي في تركهم المذاكرة، واستغناءُ أحمد بن حنبل بمذاكرة أبي زرعة عن نوافل العبادة، وهجرُ محمد بن الحسن عزمَه إلى حاجةٍ له لما رأى الشافعيَّ مقبلًا عليه وخلوُّه به ليلةً لمذاكرته وضنُّه بها على غيره .. والأخبار في مذاكرة أهل العلم وطلابه كثيرة، وما زالت المذاكرة سمتًا للمحصِّلين من العلماء والطالبين حتى صارت ختمًا يُطبَع في تراجمهم، فلا يكاد يفارق طرفُك الأوصاف المضافة إلى المذاكرة حين تطالع سِيَرهم: (حسن المذاكرة)، (حلو المذاكرة)، (جميل المذاكرة)، (جليل المذاكرة)، (مليح المذاكرة)، (لطيف المذاكرة)، (عَذْب المذاكرة)، (طيِّب المذاكرة)، (كثير المذاكرة)، (واسع المذاكرة)، (حاضر المذاكرة)، (قوي المذاكرة)، (متين المذاكرة)، (مفيد المذاكرة)، (ممتع المذاكرة)، (حميد المذاكرة)، (لَسِن المذاكرة) .. ومن أظرفها ما جاء في ترجمة أبي عبدالله ابن زمرك (793هـ) من أنه (شَرِه المذاكرة)[10].

******

طالبَ العلم .. لتكن المذاكرةُ هجِّيراك، وشغلَك الشاغلَ متى سنحت لك الفرصة، فبالمذاكرة يتعاظم علمك وتتقد قريحتك، ومهما دقَّت الفائدة أو جلَّت فلا تستكثرْ أن تذاكر بها أحدًا، واعجبْ لحال المنذر أبي الحكم الأموي الأندلسي، فقد كان كلَّما لقي رجلًا من إخوانه قال له: (هل لك في مذاكرة باب من النحو؟)، وما زال يهتف بكل أحد بهذه الكلمة حتى عُرِفَ بها، وصار يلقَّب بـ (المذاكرة)[11]!

طالبَ العلم .. احفظ علمَك بالمذاكرة، فـ (إنَّما يُذهِبُ العلمَ النسيانُ وتركُ المذاكرة) كما يقول الزهري[12]، ومن قبلُ قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (تزاوروا وتذاكروا هذا الحديث، فإنكم إن لم تفعلوا يَدرُسْ علمُكم)[13] .. وذلك أنَّ في المذاكرة ذكرَ المعلومة واستثارتَها والإيرادَ عليها والمحاججةَ دونها، وفي تعدُّدِ طرق التفاعل مع المعلومة توطيدٌ لأركانها، وفي المذاكرة بثٌّ للمعلومة واستقبالٌ لها، وفي تنوُّعِ تحرُّكات المعلومة ترسيخٌ لها .. ومن شواهد أفول العلم مع غياب حاجب المذاكرة ما حدث لأبي القاسم بهاء الدين القفطي الشافعي (697هـ) فقد قال: (أعرف عشرين علمًا، أُنسِيتُ بعضها لعدم المذاكرة)[14] .. فيا حسرةً على تلك العلوم الآفلة!

ومن العبارات الذائعة في الأوساط العلمية (حياة العلم مذاكرته) ويُروى نحوُها عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعلقمة، وابن أبي ليلى، وغيرهم .. ولما تحدث السخاوي (902هـ) عن تلميذه عبدالرحمن بن محمد المري المقدسي أثنى عليه وأبان عن أهليَّته، ثم قال: (لم أستكثر جلوس الطلبة بين يديه، وتلقيهم بطيب النفوس عنه ما تحقق لديه، فليتقدم لإفادة الطالبين وللزيادة من المذاكرة مع المحققين، فحياة العلم المذاكرة به)[15].

وقد كان للهالك أبي رَيَّةَ (1390هـ) ولدٌ نابهٌ أسماه مصطفى صادق، على اسم شيخه الرافعيِّ (1356هـ) تيمُّنًا ومحبَّةً، وقد كان حريصًا عليه، حفيًّا به، يعدُّه لمقام عليٍّ في العلم والمعرفة، وكان كما يصفه مع حداثة سنِّه (نسيج وحده كمالًا وخلقًا، وذكاءً وعلمًا)، وكان أبو رية كثير السؤال والاستشارة لشيخه الرافعي فيما يتعلق بابنه مصطفى، إنْ في تحديد مقروءاته، أو في توجيهه لبعض رياضات العلم، ومما جاء في جوابات الرافعي قوله:
(دَعْ لمصطفى شأنه، فهو بصيرٌ بما يحتاج إليه، ولكن إن استطاع أن يضمَّ إليه في الدرس تلميذًا مجتهدًا نشيطًا فذلك أنفعُ، كيلا يعتريه الملل ويجد من يناقشه، فإن المناقشة من أنفع الوسائل في تثبيت المسائل في الذهن، وقلَّما ينسى الإنسان مسألةً ناقش فيها)[16].

وقد توفي مصطفى صادق أبو رية وعمره إحدى وعشرين سنة، وتفطَّر كبد والده لذلك حتى قال عنه بعد أن أرَّخ لوفاته بفجر يوم الخميس أول شهر رمضان سنة 1359هـ: (بأفول بدره غاب معه كوكب سعادتي في هذه الحياة)[17].

طالبَ العلم .. في المذاكرة إيناسٌ يعرفه من جرَّبه، وهي من وسائل تنمية محبة العلم في قلب الطالب، وقد كان أبو العباس عبدالله بن طالب القاضي (275هـ) يجمع في مجلسه المختلفين في الفقه، ويغري بينهم ليتذاكروا وتظهر الفائدة، وربَّما أمرهم بذلك، حتى قيل عنه: (لم يكن شيءٌ أحبَّ لابن طالب من المذاكرة في العلم)[18].

ومثله شريكه في الاسم والكنية، أبو العباس عبدالله بن أحمد التونسي (352هـ)، فقد جاء في ترجمته أنه (كان يفصِّل المسائلَ كما يفصِّل الجزارُ الحاذقُ اللحمَ، وكان يحب المذاكرة في العلم ويقول: دعونا من السماع ألقوا علينا المسائل .. وربَّما دخل عليه أصحابه وهو مُلتاثٌ، فإذا أخذوا في المذاكرة زال الْتِياثُه، وظهر نشاطُه)[19].

طالبَ العلم .. اتخذ للمذاكرة قرينًا يشاكلك علمًا وفهمًا واهتمامًا، قرينًا لا تفني وقتك معه في مقدمات ينبغي أن تكون مطويَّةً حال المذاكرة، فإنك إنْ فعلت ذلك انقلب عليك ظهرُ مجنِّ المذاكرة، وصارت المذاكرة مملةً موحشةً قليلةَ النفع، وانظر كيف كان الإمام أحمد حفيًّا بمذاكرته لأبي زرعة، وما ذلك إلا لما بينهما من المشاكلة العلميَّة، حتى إن أبا زرعة كان فيما بعدُ (يُشبَّه بأحمد بن حنبل) كما ذكر ذلك محمد بن إسحاق الصاغاني[20].

وليس المراد بالمشاكلة هنا التوازي في القدر العلمي، بل المراد المواطأةُ في أصل الملكة والاستعداد مع الدراية بمقدمات العلم ومصادره ومصطلحات أهله.

وكما يذاكر الطالب قرينه، فكذلك الأشياخ يذاكرون النابهين من تلاميذهم، ومن الشواهد البديعة في ذلك ما كان بين الشاطبي (790هـ) وتلميذه أبي جعفر القصَّار، فقد كان الشاطبي يطالع أبا جعفر ببعض المسائل حين تصنيفه “الموافقات”، ويباحثه فيها، وبعد ذلك يضعها في كتابه[21]، وما ذلك إلا لعلم الشاطبي بفضل عطاء المذاكرة، وأثرها في تحرير المسائل، وإطلاعِها المذاكِرَ على ما في المسألة من مواطن القوة ليستثمرها ومواطن الضعف فيتلافاها.

وكان مفتي غرناطة، وشيخ علماء الأندلس في زمانه، أبو إسحاق إبراهيم بن فتوح (866هـ) مدركًا لأثر مذاكرة تلاميذه، ويعبِّر عن ذلك بقوله: (لو استغنيت عن المعونة بالوظائف لتركتها إلا وظيفة التدريس لما لي فيها من الانتفاع بمذاكرة الطلبة)[22].

طالبَ العلم .. كان زياد بن جارية التميمي إذا خلا بأصحابه استنهضهم وقال: (أخرجوا مخبَّآتكم)[23] .. وأنت، ذاكرْ مع أقرانك محفوظاتِك، ذاكرْ معهم مقروءاتِك، بحوثَك ومكتوباتِك .. كنْ شرارةَ المذاكرة في كلِّ مجلس، أغْرِ جُلَساءَك بمسائل العلم، استثر مخبَّآتِهم وأذقهم حلاوة المباحثة .. ذاكرْ ما علمتَ لتطَّلع على ما لا تعلم، وخذْها من أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (تذاكروا الحديث، فإن الحديث يهيِّج الحديث)[24] والمسألة تهيِّج المسألة، والفائدة تهيِّج الفائدة .. احتشد بجمع المشكلات لتنثرها في مجالس المذاكرة، بل اطرحْ ما تظنُّه صوابًا لتدرك إشكاله، (فإنَّ معرفةَ الإشكال علمٌ في نفسه وفتحٌ من الله تعالى)[25].

طالبةَ العلم .. خذيها من أم الدرداء .. أتاها عون بن عبدالله بن عتبة في نفرٍ من أصحابه وأخذوا يذاكرونها العلم، ثم قال لها عونٌ: أمللناكِ يا أمَّ الدرداء .. فقالت لهم: (ما أمللتموني .. لقد طلبت العبادة في كل شيء، فما وجدت شيئًا أشفى لنفسي من مذاكرة العلم)[26].

طالبَ العلم .. أفسِح لمذاكرتك


                                                                                                      منقول من [ مجلة البيان – العدد (327) – شهر ذي القعدة/1435 هـ ]

————————————–
[1] انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (20: 583).
[2] تاريخ أبي زرعة الدمشقي (1: 361).
[3] سير أعلام النبلاء للذهبي (13: 314).
[4] من الكِيَاسة، وهي العقلُ والتوقُّد.
[5] سير أعلام النبلاء (13: 67-68).
[6] تاريخ دمشق لابن عساكر (17: 462).
[7] تاريخ بغداد للخطيب البغدادي (2: 566).
[8] تاريخ بغداد (2: 567). 
[9] طبقات الفقهاء للشيرازي (61).
[10] أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض (2: 8).
[11] إنباه الرواة للقفطي (3: 323-324).
[12] سير أعلام النبلاء (5: 337).
[13] جامع بيان العلم وفضله لابن عبدالبر (1: 201).
[14] طبقات الشافعية الكبرى لتاج الدين السبكي (8: 392).
[15] الضوء اللامع للسخاوي (4: 126).
[16] رسائل الرافعي (226).
[17] رسائل الرافعي (276) هامش (1).
[18] ترتيب المدارك للقاضي عياض (4: 309).
[19] ترتيب المدارك (6: 11-12).
[20] سير أعلام النبلاء (13: 70).
[21] انظر: روضة الأعلام بمنزلة العربية من علوم الإسلام لابن الأزرق الغرناطي (2: 747).
[22] روضة الأعلام بمنزلة العربية من علوم الإسلام (2: 915).
[23] تاريخ أبي زرعة الدمشقي (1: 357).
[24] تاريخ أبي زرعة الدمشقي (2: 539). وجاء عن ابن مسعود رضي الله عنه: (تذاكروا الحديث فإنه يُهيِّج بعضه بعضًا) جامع بيان العلم وفضله (1: 202).
[25] الفروق للقرافي (1: 285).
[26] جامع بيان العلم وفضله (1: 204).

 

 

طالبُ العلم .. والمذاكرة

 

مشاري الشثري


بسم الله الرحمن الرحيم


تحتلُّ المذاكرة العلمية مرتبةً متأخرةً في سلم أولويات كثير من طلبة العلم ممن يراوح قدميه بين حضور الدروس والتلقي عن الأشياخ، وبين الانكفاء على نفسه متحفِّظًا لمتنه مستشرحًا لكتابه، وقلَّما تجد للطالب مجلسًا راتبًا يذاكر فيه العلم مع أقرانه وأشياخه، يلاحي فيه أفذاذ الطلبة مستنطقًا بملاحاته مكنونَ علومهم، راجيًا بها تلقيحَ عقله وعقولهم، وهذا يفوِّت عليه كثيرًا من العوائد النافعة التي احتكرت تقديمها مجالس المذاكرة.

لما أنجزتُ كتابي البِكرَ (غمرات الأصول) دفعتُ به إلى جمعٍ من الأشياخ والطلبة طمعًا في نوال ملحوظاتهم، غير أن أحد الخُلَّص اقترح عليَّ أن نجلس لنقرأه معًا، فرَمَحَ اقتراحُه غايةَ رضاي، ثم هاتفتُ وراسلتُ بعض الأقران طالبًا منهم مشاركتنا إن اتَّسع وقتهم .. وفعلًا .. جمعتْنا مجالسُ لم تتجاوز الخمسة، قرأت فيها عليهم كتابي، وقد كنت قرأتُه وحيدًا مرَّات ومرَّات، غير أن قراءة المذاكرة في تلك المجالس كانت استئنافًا للمزيد من التحريرات، ونفخًا لروح جملةٍ من الأفكار، فالمذاكرة دفعت الكتاب من عين المؤلف الحانية إلى مشرحة الـمُذاكِرِين الصارمة، تجتالني الحمية لكتابي تارةً، وأتطامن لانتقادات الـمُذاكرِين تارات، هذا يعترض على تقرير مسألة، وذاك يطعن في صياغة فكرة، والثالث يطالب بإيضاح غريب، والرابع يرجح حذف مقطع، والخامس يقترح إضافة مبحث، وأنا أكدُّ ذهني وأستحثُّ رأيي وأُعمِلُ قلمي مصوِّبًا شارحًا حاذفًا مضيفًا … إضافةً لفوائدَ تطوَّعت بالقدوم دون استثارة مباشرة، مع ثغراتٍ تكشَّفتْ حالَ شرح بعض الأفكار المنثورة .. وكان من ضمن الجمع كاتبٌ كان قد زجَّ بمؤلَّفٍ حديثٍ له إلى المطبعة، وقد تمنَّى مع ختم هذه المجالس أنْ لو صنع بكتابه مثل ما صنعتُ لِـمَا رأى من عوائد المذاكرة وفوائدها.

******

سعيد بن عبدالعزيز من أعلام القرن الثاني (167هـ)، وكان من العلم والعمل بمكانٍ عليٍّ، ويكفي من ترجمته أنه يُقاسُ في الفضل بالإمام الأوزاعي (157هـ) مع أنه معدودٌ من تلامذته المتلقِّين عنه، بل كان أبو مسهر (218هـ) وهو ممن تلقَّى عن سعيدٍ يقدِّمُهُ على الأوزاعي، والأوزاعيُّ نفسُه كان إذا سُئل عن مسألة وسعيدٌ حاضرٌ يقول: سلوا أبا محمَّد.

وقد كان للأوزاعي مذهبٌ فقهي متبوع، انتحله أهل الشام حتى المئة الرابعة، بل كان أهل المغرب يتمذهبون بفقهه قبل أن يدخل إليهم مذهب مالك رضي الله عن الجميع[1] .. ثم اندثر مذهبه، وفَنِيَت معالمه، وكان لذلك أسباب عدة ليس هذا محلَّ بسطها، لكنَّ في أطمار تاريخ أبي زرعة الدمشقي خبرًا عزيزًا عن سعيد بن عبدالعزيز يكشف جانبًا من جوانب هذا الفناء، وذلك أنَّ أبا مسهر حدَّث أن سعيد بن عبدالعزيز قام معاتبًا أصحاب الأوزاعي قائلًا لهم في زفرة مخنوقة: (ما لكم لا تجتمعون؟! ما لكم لا تتذاكرون؟!)[2].

كنتُ قبل زمن أجمع مادَّةً لكتابة هذه الورقة (طالب العلم .. والمذاكرة) .. أنشأت ملاحظة جواليَّة مستقلة على عادتي في كتابة أيَّةِ مادَّةٍ أهيِّئها للنشر، وكلَّما وقفتُ على نقلٍ أو سيق إليَّ نصٌّ، وكلَّما سنح لي خاطرٌ = قيَّدتُه، غيرَ أنَّ لهذا الخبر امتيازًا أنبت الفرحة في قلبي.

سعيدٌ يتكلم عن مذاكرة العلم، لكن في سياق المعاتبة، وكأنه استقلَّ جهد طلاب الأوزاعي في حمل علمه وتدوينه وتحريره .. نعم، ظلَّ للأوزاعي مذهبٌ زمنًا، لكنَّ دعائمَ البقاء لم تكن كافية في استشراف سعيد، وجاء السياق الزمني شاهدًا لصدقه، فانظر أي أثر لمذاكرةِ الطلبة علمَ العالم في بقائه واستقراره.

ما لكم لا تجتمعون؟! ما لكم لا تتذاكرون؟!

هل كان سعيدٌ يقصد من هذه المعاتبة أن يدل الطلبة على تقصيرهم في العناية بعلم شيخهم، أو أنه لاحظ فتور الروح العلمية المشتركة في ميدان الأوزاعي بصرف النظر عن جمع علمه وتحريره، أو أنه رأى في غياب المذاكرة وعاءً حاويًا لهذا الفتور وذاك التقصير؟

أيًّا ما كان السبب، فغياب المذاكرة في الميدان العلمي نذير خمول وبادرة فتور لها آثار ذميمة تستحق المعالجة، ولذلك قام سعيد يستنهض طلاب الأوزاعي لتدارك الأمر.

صاحب التاريخ الذي حمل إلينا خبر سعيد هو الإمام عبدالرحمن بن عمرو النَّصْري، شيخُ الشباب، أبو زرعة الدمشقي (281ه)، وهو من كبار أعلام الشام، وكثيرًا ما يلتبس بأبي زرعة الرازي (264هـ)، وهذا الالتباس من صالح هذه الورقة، فالحديث عنه معبَرَةٌ لطيفةٌ لخبرٍ يتعلق بأبي زرعة الرازي.

هذان الإمامان – الدمشقي والرازي – من الأقران، وقد تلقَّى كل واحد منهما عن الآخر، وإن كان الدمشقيُّ أسنَّ من الرازي، فقد وُلِد قبله، وتوفي بعده بسبعَ عشرةَ سنةً، والحظوة بالكنية حالَ تجرُّدها من النسبة لصالح الرازي، وذلك لفرط إمامته واتِّساع عطائه، مع كون الدمشقيِّ أسبقَ في التكنية بها، بل إنه سبب تكنية الرازي بها!

وذلك أن المراوزةَ أهلَ الريِّ لما قدموا دمشق التقوا بأبي زرعة الدمشقي، وأعجبهم علمُه، فلمَّا عادوا إلى الريِّ كنوا صاحبهم الرازيَّ بها[3]، وقد علم بذلك أبو زرعة الدمشقيُّ، وعن ذلك يقول: (قدم علينا جماعة من أهل الري دمشق قديمًا، منهم أبو يحيى فرخويه، فلما انصرفوا – فيما أخبرني غير واحد، منهم أبو حاتم الرازي – رأوا هذا الفتى قد كاس[4] – يعني أبا زرعة الرازي – فقالوا له: نكنيك بكنية أبي زرعة الدمشقي .. ثم لقيني أبو زرعة الرازي بدمشق، وكان يذكرني هذا الحديث، ويقول: بكنيتك اكتنيت)[5].

الرازيُّ كالدمشقي ممن تلقى العلم عن إمام الدنيا أحمد بن حنبل (241هـ)، وقد روى عنه الدمشقيُّ كثيرًا في تاريخه، غير أنَّ للرازي مزيدَ اختصاص بالإمام، حتى إن الإمام أحمد كان يحفل بمجالسه معه، وهنا حَجَرُ الزاوية، فقد روى ابن عساكر في تاريخ دمشق أن أبا حفص عمر بن محمد بن رجاء قال: سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل يقول: لما قدم أبو زرعة – يعني الرازيَّ – نزل عند أبي، فكان كثير المذاكرة له، فسمعت أبي يومًا يقول: )ما صليتُ غير الفرض .. استأثرتُ بمذاكرة أبي زرعة على نوافلي)[6].

فانظرْ أيَّ مقامٍ للمذاكرة في خارطة اهتمامات الإمام أحمد.

وقبلَه محمد بن الحسن الشيباني (189هـ)، صاحبُ أبي حنيفة، فقيهُ العراق وفخرُ أهل الكوفة، مالئُ عين وقلب الشافعي (204هـ)، فقد ذكر الربيع بن سليمان أن رجلًا سأل الشافعيَّ مسألةً فأجابه، فقال له الرجل: يا أبا عبدالله، خالفك الفقهاء. فقال الشافعي: (وهل رأيتَ فقيهًا قط؟! إلا أن تكون رأيتَ محمد بن الحسن، فإنه كان يملأ العين والقلب، وما رأيت مبدنًا قط أذكى من محمد بن الحسن)[7].

تلمذ له الشافعيُّ وتخرَّج به حتى قال: (أمنُّ الناس عليَّ في الفقه محمد بن الحسن)[8] .. وبقدر إعجاب التلميذ بشيخه كان الشيخ معجبًا بتلميذه، فقد كان محمد بن الحسن حفيًّا بالشافعي، يعرف له قدرَه وسموَّ عقله، حريصًا على مجالسته ومذاكرته، ولو أدَّاه ذلك إلى تفويت عزائمه وتأجيل روابطه، ومن ذلك ما قصَّه أبو حسان الزيادي، فقد قال: (ما رأيتُ محمد بن الحسن يعظِّمُ أحدًا من أهل الفقه إعظامَه للشافعي، ولقد جاءه يومًا فلقيه وقد ركب محمد بن الحسن، فرجع محمد إلى منزله، وخلا به يومه إلى الليل، ولم يأذن لأحد عليه)[9].

كذلك يزن الرجال أشباههم، فلم يفوِّت محمد بن الحسن فرصة مذاكرة الشافعي، فخلا به ولم يأذن لأحد بالدخول عليه.

هذه ثلاثة أخبار تتعلق بمقام المذاكرة العلمية: معاتبةُ سعيد بن عبدالعزيز طلابَ الأوزاعي في تركهم المذاكرة، واستغناءُ أحمد بن حنبل بمذاكرة أبي زرعة عن نوافل العبادة، وهجرُ محمد بن الحسن عزمَه إلى حاجةٍ له لما رأى الشافعيَّ مقبلًا عليه وخلوُّه به ليلةً لمذاكرته وضنُّه بها على غيره .. والأخبار في مذاكرة أهل العلم وطلابه كثيرة، وما زالت المذاكرة سمتًا للمحصِّلين من العلماء والطالبين حتى صارت ختمًا يُطبَع في تراجمهم، فلا يكاد يفارق طرفُك الأوصاف المضافة إلى المذاكرة حين تطالع سِيَرهم: (حسن المذاكرة)، (حلو المذاكرة)، (جميل المذاكرة)، (جليل المذاكرة)، (مليح المذاكرة)، (لطيف المذاكرة)، (عَذْب المذاكرة)، (طيِّب المذاكرة)، (كثير المذاكرة)، (واسع المذاكرة)، (حاضر المذاكرة)، (قوي المذاكرة)، (متين المذاكرة)، (مفيد المذاكرة)، (ممتع المذاكرة)، (حميد المذاكرة)، (لَسِن المذاكرة) .. ومن أظرفها ما جاء في ترجمة أبي عبدالله ابن زمرك (793هـ) من أنه (شَرِه المذاكرة)[10].

******

طالبَ العلم .. لتكن المذاكرةُ هجِّيراك، وشغلَك الشاغلَ متى سنحت لك الفرصة، فبالمذاكرة يتعاظم علمك وتتقد قريحتك، ومهما دقَّت الفائدة أو جلَّت فلا تستكثرْ أن تذاكر بها أحدًا، واعجبْ لحال المنذر أبي الحكم الأموي الأندلسي، فقد كان كلَّما لقي رجلًا من إخوانه قال له: (هل لك في مذاكرة باب من النحو؟)، وما زال يهتف بكل أحد بهذه الكلمة حتى عُرِفَ بها، وصار يلقَّب بـ (المذاكرة)[11]!

طالبَ العلم .. احفظ علمَك بالمذاكرة، فـ (إنَّما يُذهِبُ العلمَ النسيانُ وتركُ المذاكرة) كما يقول الزهري[12]، ومن قبلُ قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (تزاوروا وتذاكروا هذا الحديث، فإنكم إن لم تفعلوا يَدرُسْ علمُكم)[13] .. وذلك أنَّ في المذاكرة ذكرَ المعلومة واستثارتَها والإيرادَ عليها والمحاججةَ دونها، وفي تعدُّدِ طرق التفاعل مع المعلومة توطيدٌ لأركانها، وفي المذاكرة بثٌّ للمعلومة واستقبالٌ لها، وفي تنوُّعِ تحرُّكات المعلومة ترسيخٌ لها .. ومن شواهد أفول العلم مع غياب حاجب المذاكرة ما حدث لأبي القاسم بهاء الدين القفطي الشافعي (697هـ) فقد قال: (أعرف عشرين علمًا، أُنسِيتُ بعضها لعدم المذاكرة)[14] .. فيا حسرةً على تلك العلوم الآفلة!

ومن العبارات الذائعة في الأوساط العلمية (حياة العلم مذاكرته) ويُروى نحوُها عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعلقمة، وابن أبي ليلى، وغيرهم .. ولما تحدث السخاوي (902هـ) عن تلميذه عبدالرحمن بن محمد المري المقدسي أثنى عليه وأبان عن أهليَّته، ثم قال: (لم أستكثر جلوس الطلبة بين يديه، وتلقيهم بطيب النفوس عنه ما تحقق لديه، فليتقدم لإفادة الطالبين وللزيادة من المذاكرة مع المحققين، فحياة العلم المذاكرة به)[15].

وقد كان للهالك أبي رَيَّةَ (1390هـ) ولدٌ نابهٌ أسماه مصطفى صادق، على اسم شيخه الرافعيِّ (1356هـ) تيمُّنًا ومحبَّةً، وقد كان حريصًا عليه، حفيًّا به، يعدُّه لمقام عليٍّ في العلم والمعرفة، وكان كما يصفه مع حداثة سنِّه (نسيج وحده كمالًا وخلقًا، وذكاءً وعلمًا)، وكان أبو رية كثير السؤال والاستشارة لشيخه الرافعي فيما يتعلق بابنه مصطفى، إنْ في تحديد مقروءاته، أو في توجيهه لبعض رياضات العلم، ومما جاء في جوابات الرافعي قوله:
(دَعْ لمصطفى شأنه، فهو بصيرٌ بما يحتاج إليه، ولكن إن استطاع أن يضمَّ إليه في الدرس تلميذًا مجتهدًا نشيطًا فذلك أنفعُ، كيلا يعتريه الملل ويجد من يناقشه، فإن المناقشة من أنفع الوسائل في تثبيت المسائل في الذهن، وقلَّما ينسى الإنسان مسألةً ناقش فيها)[16].

وقد توفي مصطفى صادق أبو رية وعمره إحدى وعشرين سنة، وتفطَّر كبد والده لذلك حتى قال عنه بعد أن أرَّخ لوفاته بفجر يوم الخميس أول شهر رمضان سنة 1359هـ: (بأفول بدره غاب معه كوكب سعادتي في هذه الحياة)[17].

طالبَ العلم .. في المذاكرة إيناسٌ يعرفه من جرَّبه، وهي من وسائل تنمية محبة العلم في قلب الطالب، وقد كان أبو العباس عبدالله بن طالب القاضي (275هـ) يجمع في مجلسه المختلفين في الفقه، ويغري بينهم ليتذاكروا وتظهر الفائدة، وربَّما أمرهم بذلك، حتى قيل عنه: (لم يكن شيءٌ أحبَّ لابن طالب من المذاكرة في العلم)[18].

ومثله شريكه في الاسم والكنية، أبو العباس عبدالله بن أحمد التونسي (352هـ)، فقد جاء في ترجمته أنه (كان يفصِّل المسائلَ كما يفصِّل الجزارُ الحاذقُ اللحمَ، وكان يحب المذاكرة في العلم ويقول: دعونا من السماع ألقوا علينا المسائل .. وربَّما دخل عليه أصحابه وهو مُلتاثٌ، فإذا أخذوا في المذاكرة زال الْتِياثُه، وظهر نشاطُه)[19].

طالبَ العلم .. اتخذ للمذاكرة قرينًا يشاكلك علمًا وفهمًا واهتمامًا، قرينًا لا تفني وقتك معه في مقدمات ينبغي أن تكون مطويَّةً حال المذاكرة، فإنك إنْ فعلت ذلك انقلب عليك ظهرُ مجنِّ المذاكرة، وصارت المذاكرة مملةً موحشةً قليلةَ النفع، وانظر كيف كان الإمام أحمد حفيًّا بمذاكرته لأبي زرعة، وما ذلك إلا لما بينهما من المشاكلة العلميَّة، حتى إن أبا زرعة كان فيما بعدُ (يُشبَّه بأحمد بن حنبل) كما ذكر ذلك محمد بن إسحاق الصاغاني[20].

وليس المراد بالمشاكلة هنا التوازي في القدر العلمي، بل المراد المواطأةُ في أصل الملكة والاستعداد مع الدراية بمقدمات العلم ومصادره ومصطلحات أهله.

وكما يذاكر الطالب قرينه، فكذلك الأشياخ يذاكرون النابهين من تلاميذهم، ومن الشواهد البديعة في ذلك ما كان بين الشاطبي (790هـ) وتلميذه أبي جعفر القصَّار، فقد كان الشاطبي يطالع أبا جعفر ببعض المسائل حين تصنيفه “الموافقات”، ويباحثه فيها، وبعد ذلك يضعها في كتابه[21]، وما ذلك إلا لعلم الشاطبي بفضل عطاء المذاكرة، وأثرها في تحرير المسائل، وإطلاعِها المذاكِرَ على ما في المسألة من مواطن القوة ليستثمرها ومواطن الضعف فيتلافاها.

وكان مفتي غرناطة، وشيخ علماء الأندلس في زمانه، أبو إسحاق إبراهيم بن فتوح (866هـ) مدركًا لأثر مذاكرة تلاميذه، ويعبِّر عن ذلك بقوله: (لو استغنيت عن المعونة بالوظائف لتركتها إلا وظيفة التدريس لما لي فيها من الانتفاع بمذاكرة الطلبة)[22].

طالبَ العلم .. كان زياد بن جارية التميمي إذا خلا بأصحابه استنهضهم وقال: (أخرجوا مخبَّآتكم)[23] .. وأنت، ذاكرْ مع أقرانك محفوظاتِك، ذاكرْ معهم مقروءاتِك، بحوثَك ومكتوباتِك .. كنْ شرارةَ المذاكرة في كلِّ مجلس، أغْرِ جُلَساءَك بمسائل العلم، استثر مخبَّآتِهم وأذقهم حلاوة المباحثة .. ذاكرْ ما علمتَ لتطَّلع على ما لا تعلم، وخذْها من أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (تذاكروا الحديث، فإن الحديث يهيِّج الحديث)[24] والمسألة تهيِّج المسألة، والفائدة تهيِّج الفائدة .. احتشد بجمع المشكلات لتنثرها في مجالس المذاكرة، بل اطرحْ ما تظنُّه صوابًا لتدرك إشكاله، (فإنَّ معرفةَ الإشكال علمٌ في نفسه وفتحٌ من الله تعالى)[25].

طالبةَ العلم .. خذيها من أم الدرداء .. أتاها عون بن عبدالله بن عتبة في نفرٍ من أصحابه وأخذوا يذاكرونها العلم، ثم قال لها عونٌ: أمللناكِ يا أمَّ الدرداء .. فقالت لهم: (ما أمللتموني .. لقد طلبت العبادة في كل شيء، فما وجدت شيئًا أشفى لنفسي من مذاكرة العلم)[26].

طالبَ العلم .. أفسِح لمذاكرتك


[ مجلة البيان – العدد (327) – شهر ذي القعدة/1435 هـ ]

————————————–
[1] انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (20: 583).
[2] تاريخ أبي زرعة الدمشقي (1: 361).
[3] سير أعلام النبلاء للذهبي (13: 314).
[4] من الكِيَاسة، وهي العقلُ والتوقُّد.
[5] سير أعلام النبلاء (13: 67-68).
[6] تاريخ دمشق لابن عساكر (17: 462).
[7] تاريخ بغداد للخطيب البغدادي (2: 566).
[8] تاريخ بغداد (2: 567). 
[9] طبقات الفقهاء للشيرازي (61).
[10] أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض (2: 8).
[11] إنباه الرواة للقفطي (3: 323-324).
[12] سير أعلام النبلاء (5: 337).
[13] جامع بيان العلم وفضله لابن عبدالبر (1: 201).
[14] طبقات الشافعية الكبرى لتاج الدين السبكي (8: 392).
[15] الضوء اللامع للسخاوي (4: 126).
[16] رسائل الرافعي (226).
[17] رسائل الرافعي (276) هامش (1).
[18] ترتيب المدارك للقاضي عياض (4: 309).
[19] ترتيب المدارك (6: 11-12).
[20] سير أعلام النبلاء (13: 70).
[21] انظر: روضة الأعلام بمنزلة العربية من علوم الإسلام لابن الأزرق الغرناطي (2: 747).
[22] روضة الأعلام بمنزلة العربية من علوم الإسلام (2: 915).
[23] تاريخ أبي زرعة الدمشقي (1: 357).
[24] تاريخ أبي زرعة الدمشقي (2: 539). وجاء عن ابن مسعود رضي الله عنه: (تذاكروا الحديث فإنه يُهيِّج بعضه بعضًا) جامع بيان العلم وفضله (1: 202).
[25] الفروق للقرافي (1: 285).
[26] جامع بيان العلم وفضله (1: 204).

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

انتقل إلى أعلى