البناء المنهجي عند طالب العلم

 

مما لا ريب فيه أن إطلاق الحكم على أمر ما أو إبداء الرأي فيه، لا يكون صحيحاً إلا إذا تكاملت الصورة في ذهن صاحب الحكم أو الرأي، وهذا الأمر لا يتعلق بعلم معين أو فن معين، إلا أن الكلام هنا عن طلب العلم الشرعي على وجه الخصوص.

وليتضح الكلام حول البناء المنهجي سأضرب مثالاً على ذلك بنوع من أنواع البيوع، وهو:

– بيع النجش:

يُعرِّف الفقهاء بيع النجش بقولهم: «أن يزيد في ثمن السلعة من لا يريد شراءها»، وبعضهم يزيد: «بقصد الإضرار».

 حكم هذا النوع من البيع

اتفق الفقهاء على منع هذا النوع من البيوع، فبعضهم أطلق التحريم، وبعضهم أطلق الكراهة ومراده كراهة التحريم، وللتفريق بين الأمرين مقصد يعود إلى ترتب آثار العقد عليه من عدمه.

واختلفوا إذا وقع هذا البيع:

فذهب أهل الظاهر إلى القول بفساد العقد.

وذهب الجمهور إلى صحة العقد، واختلفت طرقهم في ذلك؛ فبعضهم جعله من طريق اللزوم واستيفاء الشروط، وبعضهم الآخر جعل للمشتري الخيار في الإمساك أو عدمه، وإن أمسك هل له أن يعود بقسطه من الثمن؟ وهل هذا يثبت لكل مشترٍ أم للجاهل فقط؟

فلو طرحنا سؤالاً بعد هذا العرض وقلنا: ما حكم بيع النجش؟ هل يكفي أن يكون الجواب: جائز أو محرم؟ مع العلم أن الحكم أو الفتوى لا بد أن يكون لهما مستند شرعي.

إذن ليتبين لنا المراد لا بد من العودة لمسألتنا من جديد لنعرف ما الأصول التي بُنيت عليها.

إذا أردنا أن نتصور مسألة النجش لا بد أن نستحضر التالي:

أولاً: أن النجش نوعٌ من أنواع البيوع، وبالتحديد من الأنواع المنهي عنها.

ثانياً: يذكره الفقهاء عادة في موضعين: الأول: البيوع المنهي عنها، والثاني: في أنواع الخيار، وبالتحديد في خيار الغبن[1].

ثالثاً: هل ورد فيه نص من الكتاب أو السنة؟ وإن كان النص مما يحتاج إلى نظر في صحته، هل هو صحيح أو لا؟ وإن كان صحيحاً ما نوع الدلالة التي اشتمل عليها؟ وهل له معارض أو لا؟ وهذا والذي قبله ينطبق على كل نص.

رابعاً: إذا وصلنا إلى النص الوارد ولم نجد له معارضا من النصوص، وتبيَّنت لنا دلالته، وتوصلنا إلى أنه يدل على النهي؛ يجب علينا التالي:

خامساً: هل النهي يقتضي فساد المنهي عنه، أو يصح مع إثم فاعله؟

وهو ما يعبِّر عنه الأصوليون باجتماع الجهة أو انفكاكها، وكذا يعبِّرون برجوع النهي إلى ذات البيع أو إلى شرط من شروطه، أو يرجع إلى أمر خارج عنه.

إذن، من أراد الإجابة عن حكم بيع النجش لا بد أن يستحضر ما تقدم، ولو نظرنا فيه لوجدنا أنه اشتمل على معرفة النص من حيث ثبوته _ ولهذا بطبيعة الحال متطلباته – ومعرفته بدلالة ألفاظه، ومعرفة ما ورد في النصوص الأخرى من موافقة لدلالته أو مخالفة.

كما يتطلب معرفة لغة الفقهاء وطريقتهم في بناء الأحكام من خلال مذاهبهم الفقهية، ومعرفة أصول الفقه والخلاف في تطبيقاته، وما يترتب على ذلك.

هذا المثال يوضح لنا متطلبات البناء المنهجي في صورة جزئية واحدة، مع العلم أن من الصور ما يحتاج إلى أكثر من ذلك، خصوصاً إذا أضيف إلى الخلافِ الخلافُ في ثبوت الحديث.

أما ما يتعلق بالبناء المنهجي العام – وهو مقصودنا هنا، فمن المعلوم أن للعلم طرقا مسلوكة لا بد لمن أراد تحصيله والبلوغ فيه أن يسلكها، أما مجرد التوهم فيه أو معرفة بعض مسائله فلا يعد صاحبه مكتملا في المنهج، فلا يكفي أن يطلق التحليل أو التحريم مجرداً من غير معرفة بالأصول التي بُني عليها، كما لا ينبغي إطلاق تصحيح حديث أو تضعيفه من غير معرفة بأصول الحكم على الأحاديث، ومثل هذا يقال في كل علم من العلوم، ولكن يزداد الأمر خطورة إذا اكتفى طالب العلم أو المفتي أو المجيب بما هو عليه وظن أنه يكفي في الحكم أو الفتوى أو حتى إبداء الرأي في الأمور الفكرية من غير مراعاة لما تقدم الكلام عليه.

كيف يتحقق البناء المنهجي؟

إن ضعف المدرسة العلمية المعاصرة وانحصار انتشارها، كان من أبرز الأسباب في ضعف البناء المنهجي عند طلاب العلم، حيث إنك ترى أن معظم الطلاب في الأقطار الإسلامية يعتمدون على أنفسهم في طلب العلم وتحصيله، وهذا الأمر – وإن كان لا تعدم فائدته – له من الآفات التي لا يدركها كثير من الطلاب الشيء الكثير، وهذا كان من أبرز أسباب الفوضى في الفتوى وعشوائيتها، وبات ذلك لا يخفى على أحد.

أما أهم وسائل البناء المنهجي، فهي كالتالي:

أ – الإخلاص لله سبحانه وتعالى:

 فهو مفتاح المغاليق، ومزيل كل صعوبة، ومنير الطريق، بل هو السر الذي تمايز به الناس، فليس العلم بكثرة الرواية، بل هو نور يقذفه الله في قلب العبد فيميِّز به بين الحلال والحرام، قال ابن الجوزي _ رحمه الله: «اعلم أن الطريق، والسبيل؛ كالليل المدلهم، غير أن عين الموفق بصر فرس لأنه يرى في الظلمة كما يرى في الضوء، والصدق في الطلب منار أين وجد يدل على الجادة، وإنما يتعثر من لم يخلص، وإنما يمتنع الإخلاص ممن لا يراد»[2].

ب – تلقي العلم عن المشايخ:

اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن أنفع طرق تلقي العلم أخذه من أفواه العلماء، قال الشاطبي – رحمه الله: «المقدمة الثانية عشرة: من أنفع طرق العلم الموصلة إلى غاية التحقيق به أخذه عن أهله المتحققين به على الكمال والتمام… وقد قالوا: «إن العلم كان في صدور الرجال، ثم انتقل إلى الكتب، وصارت مفاتيحه بأيدي الرجال»، وهذا الكلام يقضي بأنه لا بد في تحصيله من الرجال… فإذا تقرر هذا فلا يؤخذ إلا ممن تحقق به.. ومن شروطهم في العالم أن يكون عارفاً بأصوله وما يبنى عليه ذلك العلم، قادراً على التعبير عن مقصوده فيه، عارفاً بما يلزم عنه…»[3].

«إن فقدان السنة المباركة في التلقي، وهو تلقي العلم في حلقه وما يتبعه من مشامَّة الشيخ ومشافهته ومجالسة أهل العلم التي تضع في النفس الصبر، وطول النفس، ومن ثم العمق والعقل والتأني، وكما قيل: مفاتيح العلم أربعة: عقل رجاح، وشيخ فتاح، وكتب صحاح، ومداومة وإلحاح»[4].

ج – مراعاة الأولويات:

وهذا الأمر من المهمات، فلا ينبغي لطالب العلم أن يتجاوز مرحلة إلى أخرى حتى يلمَّ ويتقن أساسيات هذه المرحلة، كما ينبغي أن يقدم الأهم فالأهم في المرحلة نفسها.

لكل مرحلة من المراحل خصوصيَّتها، ومعرفة هذه الخصوصيات تحتاج إلى مشورة من يُتلقى عنه العلم، فمن هذه الخصوصيات: العناية بالمختصرات قبل المطولات، وهذا من شأن المرحلة الأولى، ومنها كثرة الحفظ والمراجعة، وأن التلقي من المعلم هو المصدر الرئيس لا يُلجأ إلى غيره إلا لحاجة.

وأما في المرحلة الثانية فيتوسع الطالب، حيث يبدأ النظر في كتب الشروح إضافة إلى إملاءات المعلم، مع التوسع في جمع شتات المواد المتلقاة.

ثم المرحلة الثالثة، ويبدأ الطالب بالاعتماد على نفسه أكثر مع بقاء دور المعلم من حيث المشورة والنصح، ومن خصائص هذه المرحلة الميل إلى التخصص والتوسع في قراءة المطولات.

د – السير وفق برنامج محدَّد المعالم:

إن من أكثر أسباب ضياع الجهود وتبديد الهمم، العشوائية وترك تنظيم الوقت، وطالب العلم ليس هو الذي يستغل الفراغ، وإنما الذي يصنع الفراغ ويستفيد منه.

قد تقرَّر عند أهل العلم أن من علامات نجاح الطالب أن يكون له برنامج يعالج فيه اختلاف العلوم وصفاتها – وقد تقدم بعض ذلك في مراعاة المراحل، فالعلم الذي يحتاج إلى صفاء ذهن وسعة وقت – كالحفظ مثلاً – يُختار له أطراف النهار، وما لا يحتاج إلى ذلك – كالمراجعة – يخصص له وسط النهار، وما يحتاج إلى إعمال الذهن يخصص له وقت أطول من غيره.

كما ينبغي للطالب ألَّا يكون ملبِّياً لكل نداء، بل يكون حاله كما قال بعض السلف: «إذا أردت أن تجلس فامسك الشمس»، فالوقت هو روح طالب العلم وقوام حياته.

وفي نهاية المطاف أحسب أني قد وضعت بعض الأساسيات في طريق البناء المنهجي، أسأل الله أن ينفع بها كاتبها وقارئها، والله أعلم.


 مجلة البيان العدد 302 شوال 1433هـ، أغسطس 2012م.


[1] لمعرفة موضع ذكر هذا النوع من البيع يُحدَّد لطالب العلم الضوابط التي تحكم الباب الفقهي.

[2] صيد الخاطر: 272.

[3]  الموافقات: 54، وله في ذلك كلام نفيس لا يتسع المقام لذكره.

[4] مجلة البيان: العدد 283، ص9، مقال بعنوان: (الشذوذ في الفتوى.. الأسباب والأبعاد).

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

انتقل إلى أعلى