أغتيل فضيلة الشيخ عبد القادر نور فارح كما اغتيل غيره من المصلحين عبر التاريخ، كأمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب العدوي القرشي الملقب بالفاروف رضي الله عنه. وكان مقتل فضيلته بالأمس الجمعة في 5/4/1434هـ الموافق 15/2/2013م في مسجد بدر بمدينة جروي في ولاية بونتلاند بالصومال عقب صلاة العصر مباشرة حيث أطلق عليه الرصاص على رأسه بعد رفعه من الركوع بالركعة الثالثة في عمر يناهز 72 سنة. وحادثة اغتيال الشيخ يذكرنا بحادثة اغتيال مماثل لزميله ورفيق دربه فضيلة الدكتور أحمد حاج عبد الرحمن محمد حرسي الليلكسي رحمه الله ببوصاصو في فجر الاثنين عاشوراء من شهر محرم عام 1433هـ الموافق لـ 5 ديسيمبر 2011م والتي تمّت بسبب عقيدته وفكره الإسلامي النير المعتدل. وتمّ اغتيال الشيخ عبد القادر على يد شاب استخدم بمسدس صغير. وفي نهاية المطاف قٌبض القاتل ولكن عقب تنفيذ خطته الإجرامية بحيث استطاع المصلون القبض عليه رغم محاولته الفرار وتشهير المسدس إليهم وجرح ثلاثة أشخاص آخرين. وعند ذيوع خبر مقتل الشيخ ووفاته توافدت على جروي وفود كثيرة ليست فقط من منطقة بونتلاند، وإنما أتوا من أنحاء الوطن الكبير، من هرجيسا وبرعو ولاسعانود ومقديشو وغالجعيو وكسمايو وغير ذلك، ودفن المرحوم بمقابر الخير في ضواحي مدينة جروي غدات يوم السبت 6/ 4/ 1434ه الموافق 16/2/2013م.
لم يدر بأنّ مصيره سوف يؤول مثل مصير فضيلة الدكتور أحمد حاج محمد رحمه الله
حين بلغ مسامع الشيخ عبد القادر خبر اغتيال فضيلة الدكتور أحمد حاج عبد الرحمن في عام 2011م في بوصاصو لم يخف حزنه الشديد في ذلك الحدث، بل ألقى كلمة قصيرة يوصي بها الأهل والأحباب الصبر والسلوان، كما وجه أصابع الاتهام من هناك – وغبار التراب ما زال عالقا على أيدي الناس – إلى حركة الشباب بحيث أشار إلى أنهم هم الذين ارتكبوا الجريمة ، وأنّ أيديهم ملطخة بالدماء. ولم يدري – رحمه الله – بأنّ مصيره سوف تؤول مثل مصير رفيق دربه في الدعوة الإسلامية والاصلاح بين الناس في داخل البلاد وخارجه.
وَكُنْتُ أَرَى الصَّبْرَ الْجَمِيلَ مَثُوبَة ً
فَصِرْتُ أَرَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ مَأْثَمَا
وَ كيفَ تلذُّ العيشَ نفسٌ تدرعتْ
منَ الحزنِ ثوباً بالدموعِ منمنما ؟
تألمتُ فقدانَ الأحبة ِ جازعاً
وَ منْ شفهُ فقدُ الحبيبِ تألما
شهادته للدعوة والتاريخ أم لاستشهاده:
وجاء هذا الاغتيال في وقت كنا نتابع مذكرات الحركة الإسلامية في الصومال والتي جاءت شهادة الشيخ في مطلعها بقلم الزميل والصديق القدير الأستاذ محمد عمر أحمد صاحب المجهود الكبير – قبل توقفه في متابعة النشر بعد سوء التعامل معه بشبكة الشاهد للموضوع كما ظهر للمتابعين- ، علما أنّني سوف أكون عالة عليها في كتابتي هذه لأهميتها لما تحمل في طياتها ما يشفي العليل.
ولأهمية شخصية الشيخ عبد القادر اهتم الكاتب الأستاذ محمد عمر أحمد في بيكورة مذكراته ضمن مذكرات الحركة الإسلامية في الصومال رغم أنّ لدى الكاتب أخبار ومعلومات تتعلق بشخصيات إسلامية مهمة أخرى في محيط الصومالي الكبير، بل أن الكاتب لم يخف في ذلك وقال: “… إلا أن مذكرات الشيخ عبد القادر هنا تختلف عن البقية بأنني تمكنت من فرصة طويلة للمحادثة والتسجيل .. “.
وتكمن قيمة هذه المذكرات للحركة الإسلامية في الصومال سواء كانت سلفية أو إخوانية ، وسواء كانت صوفية أو تقليدية ،فإن الأستاذ محمد عمر استطاع ولأول مرة في قالب مراجعات للحركة الإسلامية في القطر الصومالي التي لم تكن يوما من الأيام حكرا لأحد أو لفئة معينة.
وعند عرض الكاتب لهذه المذكرات فلم يخف لفيف من المثقفين والمتابعين – وأنا منهم – اعجابهم ، بل أشارت تعليقاتهم بأنهم ينتظرون بفارق الصبر وبشغف شديد ، وأنهم يرون بأن تلك المذكرت إنما هي إضافة مهمة إلى التاريخ الصومالي الحديث.
وكان يعجبني هذه المذكرات ذكر القبائل وتعريف الأشخاص والأماكن وكذاالأحداث وما ينبغي أن يعرف واحترام الأخ محمد عمر صاحب المذكرات رأي الشيخ عبد القادر وروايته للتاريخ دون تدخل .
ولم يخف شهادة الشيخ عبد القادر بالمصلحين في تلك الفترة – فترة الخمسينات والستينات ، وذكر بأن الشريف محمود والد سعادة السفير شريف محمد ،كان نشطا يكافح تحرير البلاد من براثن الاستعمار ، وتطوير الثقافة الإسلامية .
فمن هو الشيخ عبد القادر نور فارح المشهور بشيخ عبد القادر جعمي Gacamey ؟
إنه فضيلة الشيخ عبد القادر نور فارح، وأمه السيدة خديجة فارح محمد، وكانت أسرته أسرة بسيطة مستورة الحال التي كانت تعيش في شمال الشرقي من الصومال، ولم تكن تملك الأسرة أموالا طائلة كأغلب حال المجتمع الصومالي الرعوي ، وهذه الأسرة تنتمي إلى عشيرة موسى احدى بطون عيسى محمود من قبيلة المجيرتين المشهورة بقطرنا الصومالي.
وكان المرحوم من مواليد عام 1940م تقريبا في ناحية عنجيل تلوا Canjeel tala waa التابعة بقرية أيل AYL والتي تقع الآن ضمن المناطق ولاية بونتلاند. سموه باسم عبد القادر وذلك تيمنا بالشيخ عبد القادر الجيلاني الولي الصالح رحمه الله ، لأن الأسرة كانت كغيرها من الأسرة في المنطقة توالي الطرق الصوفية.
وكل من يعرف الشيخ عبد القادر عرف بأن المرحلة العزوبية طالت عليه حين تأخر في الزواج، مثله مثل أبيه نور فارح والذي تغيرت حالته الاجتماعية حينما بلغ الأربعين من عمره.
إذا كان الشيخ عبد القادر انشغل في شبابه بطلب العلم والدعوة إلى الله ، فإن أباه فارح انشغل يبحث الرزق الحلال والعيش الكريم ، مما اضطر ينتقل من مكان إلى آخر في داخل القطر الصومالي وخارجه حتى استقر في نهاية المطاف بكينيا البلد المجاور للصومال، والتحق هناك بالخدمة العسكرية التابعة بالجيش البريطاني، ثم إلي يوغندة بعد انسحابه من العسكر. ثم بعد ذلك رجع إلى الصومال وبالذات منطقة كسمايو في جنوب البلاد، وهناك بدأ حياة جديدة حين دخل في القفص الذهبي.
الرحلة العلمية والسفر الطويل:
اشتملت رحلة الشيخ العلمية في داخل الوطن شماله وجنوبه، وكذلك في خارج الوطن، وهي رحلة طويلة من حيث الزمن ، والواسعة من حيث المكان بدءا بمرحلة الكتاتيت وحتى في مقاعد الجامعة الإسلامية وأروقة العلم في جنبات المسجد النبوي على أيدي علماء أجلاء على مستوى العالم الإسلامي. مما يدل على حرصه للعلم والمعرفة ، وليس غريبا بأن يكبر همه في طلب العلم في مرحلة شبابه وما بعده ، لأن في صغره كان محبوبا بالعلم وأهله.
اشتهد بحفظ القرآن الكريم وعانا في ذلك حتى تمكن تعلم شيئا منه علي يد معلم سعيد شيري إبراهيم المجيرتين من بطن عيسى محمود، ثم على يد معلم إبراهيم المجيرتيني أيضاً ولكن من بطن إديغفاعلى. وأخذ بعض العلم على يد الحاج آدم أحمد موسى المشهور في المنطقة.
وفي قرية أيل بدأت مرحلة جديدة من مراحل المرحوم بحيث التحق بمدرسة لتعليم الكبار ، وكانت تدرس باللغة الإيطالية وكانت ثلاث سنوات.
وفي عام 1960م توجه الشيخ إلى العاصمة مقديشو وهو في ريعانة شبابه إلا أنه رجع إلى منطقته بعد الفترة ، ثم رجع مرة أخرى إلى مقديشو ولكنه في هذه المرة التحق بمعهد مقديشو الديني ( والتي تحولت فيما بعد إلى مدرسة شيخ صوفي)، وكانت مدرسة متوسطة تابعة للأزهر وذلك في عام 1963م وتخرج هذه المدرسة في سنة 1967م . ثم وجد فرصة للالتحاق بمعهد التضامن الإسلامي التابع بالمملكة العربية السعودية.
التحق الشيخ بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة بالمملكة العربية السعودية في بداية السبعينات وتخرج في كلية الدعوة وأصول الدين في عام 1975م.
وبعد تخرجه في الجامعة عين داعيا إلى غرب إفريقيا مع فضيلة الشيخ يوسف آدم ، وبعد فترة صادفت زيارات الرئيس محمد زياد بري وجولاته بإفريقيا في منتصف السبعينات، وأقنع الرئيس الشيخين بأنّ البلاد تحتاج إليهما واصطحب بهما إلى الوطن وعينهما قاضيين.
فالشيخ عبدالقادر ليس فقط كبير علماء منطقة بونتلاند الحالية شرق الصومال وإنما من كبار العلماء الأعلام في قطرنا الصومالي الكبير، وإنني من الذين نهلوا بحلقاته النيرة التي كان الشيخ يعقد في العاصمة مقديشو في بداية الثمانينات مثل حلقته التي كان يقرأ فيها كتاب صحيح مسلم ، وكذا حلقته المشهورة في مقديشو والتي كان يتناول بها شرح كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب التميمي. ويقال أن الشيخ ترك 9 بنين و2 بنات.
رحمه الله شيخنا فضيلة الشيخ عبد القادر نور فارح، وألهم ذويه الصبر والسلوان ، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
المصدر: الصومال اليوم