بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد لله وكفى، وبه المستعان، وإليه المشتكى، والصلاة والسلام على نبينا المصطفى، وعلى آله وأصحابه. يقول الله تعالى: “كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)” قال تعالى: “وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)” وقال صلى الله عليه وسلم: “إن لله ما أخذ ، وله ما أعطى ، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فلتصبر ولتحتسب“
وقال أيضا في وفاة ابنه إبراهيم: “إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون “.
بقلوب يملؤها الحزن والرضا بقضاء الله وقدره تتقدَّم رابطة المعاهد الشرعية في الصومال إدارة وأساتذة وطلابا بالعزاء الحار لأسرة وأقرباء الفقيد الشيخ الداعية/ عبد الله عمر نور الذي توفي ليلة الجمعة في مدينة أديس أبابا، كما تعزي الرابطة لأصحاب الفضيلة العلماء والدعاة من زملاء الشيخ وتلاميذه ورفقاء دربه في الدعوة إلى الله، وجميع أصدقائه ومحبيه، داعية الله عزَّ وجلَّ أن يغفر ذنبه، ويتغمَّده برحمته، ويرفع درجته في المهديين، ويُسكنه فسيح جنَّاته، ويخلفه في عقبه، ويلهمهم الصبر والسلوان.
ترجمة مختصرة عن الوالد شيخ المشايخ عبد الله عمر نور
الميلاد والنشاة والنسب:
ولد الشيخ عبد الله عمر نور – رحمه الله تعالى- في مدينة قلافو في الصومال الغربي، في حدود عام 1933م تقريبا، وترعرع فيها، وتلقي فيها تعليمه الأول، بحيث كان يختلف إلي حلقات العلم فيها ثم انتقل قرية “بارجون” التاريخية – حاضرة الطريقة الصالحية في المنطقة-، وتقع إلى الشمال من مدينة جدي – Godey – حوالي 65كم تقريبا. وأقام فيها إلى قريب من نهاية عقده الثاني.
وينتسب الشيخ إلى قبيلة (عبدَ الله) إحدي بطون قبيلة أوجادين المعروفة التي هي من فروع قبيلة داروت الكبيرة.
طلبه للعلم:
تلقى الشيخ تعليمه الأول في مدينة “قلافو” مسقط رأسه ، وكان ممن أخذ عنهم الشيخ جامع الليلكسي، ثم انتقل إلى قرية عشيرته “بارْجُون” وتلقى فيها الفقه الشافعي من شيخه الشيخ محمد الشبلي رحمه الله تعالى – والد الشيخ محمود الشبلي الداعية المعروف في أقطار الصومال-، ثم رحل إلي مدينة “جكجكا” يطلب العلم، ومنها إلى مدينة “هرر” ومحيطها، حتى عزم على الرحيل إلى الحجاز لأداء فريضة الحج والتتلمذ على مشايخ الحرمين الشريفين. وكان ذلك عام 1958م، في رحلة شاقة قطع فيها أرض اليمن كلها مشيا على الأقدام إلى أن بلغ الطائف التي لا تبعد عن مكة أكثر من مائة كيلومتر تقريبا.
وأصابه في هذه الرحلة مرض أضناه علاوة على مشقة السفر ولأوائه وانعدام الزاد، ثم لما اكتحلت عيناه برؤية البيت العتيق الذي ساقه إليه الشوق لم يتمالك أن طاف به ما لا يحصيه عداً إلى أن سقط مغشيا عليه من شدة الإعياء والجوع.
واستضافه الشيخ العلامة محمد عبد الله الصومالي مدرس الحديث في الحرم المكي، وأسكنه معه في بيته، فتتلمذ عليه، وقرأ عليه صحيح البخاري كاملا بالإضافة إلى متون علمية أخرى. وكان يختلف إلى حلقة الشيخ يحيى الهندي في الحرم المكي بتوجيه من شيخه ثم أرشده شيخه محمد عبد الله الصومالي إلى الالتحاق بالدراسة النظامية، فانتظم في دار الحديث المكية ثم لما أنهى المرحلة المتوسطة ونال شهادتها، أرسله الشيخ إلى
الرياض، وبعث معه تزكية يزكيه فيها إلى الشيخ عبد العزيز بن باز بغية إلحاقه بالمعهد العلمي في الرياض ثم لما لقي الشيخ ابن باز أسر إليه بأنه في صدد فتح جامعة إسلامية في المدينة النبوية، وأنه ينصحه بالالتحاق بها بدل الدراسة في المعهد العلمي في الرياض، فما كان منه إلا أن طار بذلك فرحا، وتوجه إلى المدينة المنورة على متن سيارة استأجرها له الشيخ ابن باز مع رفقة آخرين .
ولما وصلوا إلى المدينة المنورة استقبلهم الشيخ ناصر العبودي، وهو أول موظف عين للجامعة الإسلامية انذاك، وأسكنهم في مبان صغيرة كانت في أرض الجامعة، فقضوا فيها ستة أشهر قبل فتحها عام 1481هـ . ونال الشيخ رحمه الله تعالى شرف أن كان أول طالب سجل اسمه في سجلات الجامعة الإسلامية؛ لكنه لم يسجل آنذاك في المرحلة الجامعية نظرا لكونه لا يحمل شهادة ثانوية، وإنما سجل في المرحلة الثانوية التي نال شهادتها بعد ثلاث سنوات، فالتحق بكلية الشريعة فيها، وتخرج منها عام 1387-1388هـ.
وأخذ فيها عن كبار علماء عصره أمثال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي صاحب أضواء البيان، وسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، وفضيلة الشيخ محدث العصر محمد ناصر الدين الألباني، في آخرين من أمثالهم رحم الله الجميع.
جهوده الدعوية:
من تخرجه من الجامعة الإسلامية إلى عام 1973م :
حب الشيخ للدعوة إلى التوحيد كان يسري في عروقه منذ أن هداه الله الي تجريد التوحيد ونبذ الخرافات على يد شيخه محمد الصومالي. وكان يتشوق إلى نشر التوحيد والدعوة إليه في ربوع بلاده لكن الشيخ ابن باز بعثه فور تخرجه من الجامعة إلى الإمارات العربية المتحدة، فمكث فيها يدعو إلى الله عاما، ثم عينه الشيخ ابن باز مدرساً في معهد التضامن الإسلامي في العاصمة الصومالية مقديشو، والذي كان تابعا للجامعة الإسلامية إدارة ومنهجا. وكان ممن تتلمذ عليه في هذا المعهد بعض أبرز علماء الصومال ودعاته من أمثال الشيخ عمر الفاروق حاج عبده سلطان المفسر المشهور، والشيخ عبد القادر نور فارح أحد اأكان الدعوة السلفية في الصومال، والشيخ يوسف آدم محمد، والشيخ نور بارود جرحن، والشيخ علي شيخ أبوبكر الملقب بعلي الطويل رئيس الحركة
الاسلامية في القرن الإفريقي (حركة الاصلاح) سابقا، وفي آخرين. رحم الله الأموات منهم وحفظ الأحياء.
ثم أممت الحكومة الاشتراكية المعهد، وحولته إلى مدرسة نظامية، وألقي القبض على الشيخ عبد الله وهو في المعهد، وأودع السجن المركزي وقضى فيه سنتين، ثم أطلق سراحه بوساطة عشائرية اشترط فيها النظام إخراج الشيخ من البلد فذهب إلي جيبوتي.
وكان للشيخ جهود دعوية أخرى في مساجد العاصمة، وكان له حلقة علمية في مسجد (أربع ركن) شرح فيها بلوغ المرام بالإضافة إلى متون أخرى. وكان له مساجلات فكرية وعلمية مع كوادر الحزب الاشتراكي حيث كان يحضر مراكز التوعية الاشتراكية، ويلقي فيها ردودا علمية يبطل فيها الأفكار الإلحادية التي كانت الحكومة الاشتراكية تدعو إليها، وتكره الناس عليها. وكان له في ذلك مواقف مشهودة منها:
ما جرى بين الشيخ وبين سائق سيارة أجرة استقلها بحيث تعرض سائق السيارة لسب الدين والجهر بإنكار الذات الإلهية، فما كان من الشيخ إلا أن طلب منه إيقاف السيارة فورا ثم سحبه من باب السيارة وصرعه في الاسفلت بقوة ثم خنقه، وطلب منه أن يجهر بكلمة التوحيد، ثم استاقه إلى أقرب مركز شرطة، وسجل فيه محضرا ذكر فيه تفاصيل الواقعة، وطلب من الشرطة إيداعه في السجن؛ لئلا يخرق السلم الأهلي. ومن الغريب أن الشرطة رغم أنها من أدوات النظام الاشتراكي وقفت بجانب الشيخ وسجنت السائق.
من 1975-1982م:
استوطن الشيخ جيبوتي خلال تلك الفترة بعد إبعاده، وأنشأ فيها مدرسة الإرشاد الأهلية. وكان له درس عامر في التفسير في أحد أبرز مساجد العاصمة. وكان يرتاد حلقته بعض الوزراء والساسة، وسعى الشيخ خلال تلك الفترة إلى نقل معهد التضامن الإسلامي الذي أممته الحكومة الشيوعية في مقديشو إلى جيبوتي، وراسل في ذلك الشيخ عبد الله بن قعود. وتم فتح المعهد بوساطته –رحمه الله – بعد موافقة الحكومة الجيبوتية، ولا يزال المعهد -وهو تابع لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية- إلى الآن يخرج الأجيال تلو الأجيال.
من عام 1982-1988م:
ثم انتقل الشيخ إلى مدينة هرجيسا بعد حصوله على عفو من الحكومة الصومالية عام 1982م ، وأنشأ فيها مدرسة الإشاد الأهلية التي درّس فيها بعض أبرز الدعاة الصوماليين أمثال الشيخ محمد عمر درر المفسر المعروف، والشيخ عبد الرزاق حسين علي الملقلب بـ (الألباني) والشيخ حسن محمد إبراهيم (أبوحسان). وكان له حلقات علمية في المسجد الجامع بهرجيسا درّس فيها التفسير وشرح فيها صحيح مسلم بالإضافة إلى متون علمية أخري .
من عام 1988-1991م:
انتقل الشيخ إلى العاصمة مقديشو بعد نشوب الحرب الأهلية في المناطق الشمالية عام 1988م، وعُيِّن أستاذا في كلية الدراسات الإسلامية في الجامعة الوطنية. وكان له حلقة علمية في مسجد “قباء” في حي المدينة شرح فيها صحيح مسلم بالإضافة إلى المحاضرات التي كان يلقيها في مساجد العاصمة، بالإضافة إلى أنه كان ينتظم في المجالس الدعوية. ولم يكن من عادته أن يغيب عنها أو يتأخر رغم مشاغله وكبر سنه.
من عام 1991-2010م:
ثم انتقل الشيخ إثر اندلاع الحرب الأهلية في مقديشو عام 1991م إلى منطقة الصومال الغربي التي كان فيها مسقط رأسه، واستوطن مدينة (جدي). وشارك في هذه الفترة في تأسيس حركة الاتحاد الاسلامي في الصومال الغربي. وكان من أبرز قياداتها. وكان له حلقة علمية في المسجد الجامع في مدينة (جدي). وعمل قاضيا شرعياً في المحكمة الشرعية في المدينة، ثم لما بدأت المواجهة المسلحة بين حركة الاتحاد الإسلامي وبين الحكومة الأثيوبية ترك الشيخ المدينة، ورافق المجاهدين في الأدغال ،وشارك في العمليات القتالية. وكان يقطع معهم المسافات الطويلة مشيا على الأقدام رغم كبر سنه دون تعب ولا ملل.
ولم يغب يوما عن أعمال هذا الجهاد وأنشطته. وكان وفيا لرفقاء دربه الذين استشهدوا خلال تلك المسيرة أمثال الشيخ عبد الله بدي ، والشيخ عبد الله قاسم الملقب بعبد الله الصغير اللذين استشهدا في موقعة (هلوي). وبعد المصالحة التي جرت بين الحركة وبين الحكومة الأثيوبية في أواخر عام 2010م عاد الشيخ إلى مدينة (جدي)، وعين فيها قاضيا في المحكمة الشرعية. وكان له حلقة علمية في جامع المدينة شرح فيها صحيحي البخاري ومسلم، وأقام فيها بقية عمره إلى أن ألم به المرض الذي توفي بسببه في ليلة الجمعة 24 من ذي الحجة الحرام عام 1438ه الموافق 15/9/2017م رحمه الله رحمة واسعة. ودفن في مقابر المسلمين في أديس أبابا. نسأل الله أن يتغمده برحمته وأن يسكنه الفردوس الأعلى من الجنة.
إنتاجه العلمي:
1. ألف الشيخ بالاشتراك مع علماء آخرين كتاب أساس الإسلام باللغة الصومالية واشتمل على أساسيات الدين وأركانه.
2. مسيرة الإسلام في الصومال الكبير. وهو مؤلف باللغة العربية ومطبوع. واشتمل على أهم المحطات التاريخية للدعوة الإسلامية في الصومال الكبير بدأ بجهاد الإمام أحمد بن إبراهيم الأشول، ومرورا بالحركات الجهادية التي قاومت الاستعمار ، وانتهاء بالصحوة الإسلامية المعاصرة التي كان هو من أبرز مؤسسيها.
3. كتاب في شرح ما جاء من ضلالاتٍ في قصيدة “أسرعاً” للشيخ عبده تِمَ مَدوْبي.
4. بالإضافة إلى أعمال أخرى مخطوطة ، نسأل الله أن ييسر لنا إخراجها وطباعتها.
عائلة الشيخ:
تزوج الشيخ ثمان زوجات، أنجب ستة منهن، ورزق منهن 30 ولدا، 19 منهم ذكور، و12 من الإناث، وتوفي من ذلك 4 والباقي أحياء. وله من الأحفاد حوالي 60 من البنين والبنات.
ملاحظة:
نعتذر لأصدقاء الشيخ وطلابه ومحبيه عن قصر الترجمة التي لم توف حق الشيخ، ولم تشف غليل إخوانه نظرا لضيق الوقت والانشغال. ونسأل الله أن يعيننا على إخراج ترجمة ضافية تضيء جوانب حياة الشيخ كلها .
إعداد:
قريب الشيخ وصهره/ الشيخ حسن محمد إبراهيم (أبو حسان)
نجل الشيخ/ الشيخ الدكتور عبد الرحمن بن الشيخ عبد الله عمر المدني.
حررت في يوم السبت 25/12/1438ه الموافق 16/9/2017م